خارت قواها وسقطت على ركبتيها.
لم يُظهر غوفر أي شفقة تجاهها، بل ذهب يدور حولها كصياد يطارد فريسته.
كانت ميل تتحرك بخطوات بطيئة نحو الحافة، ورأسها منحنٍ، حتى شعرت أخيرًا بالسياج البارد يلامس ظهرها. عندها فقط توقف.
“هل استمتعتِ بالتمثيلية؟”
صوته كان خاليًا من الاحترام، نبرة تتحدث إلى ميل سلوبي الحقيقية، لا بليريا هيفين. كان صوته أشبه بطرقات قاضٍ يضرب مطرقته، طَرقات حاسمة.
شفتي ميل ارتجفتا وكأنها تبتسم أو تبكي، لكنها لم تنبس بكلمة.
“كيف تأكدتَ من الأمر؟”
“كل شيء كان مترابطًا بشكل مريب. لنترك والديكِ الحقيقيين، فقد ماتا منذ سنوات. لكن والدتكِ بالتبني اختفت، وعشيقها فقد القدرة على الكلام.”
سمعت بعض هذه التفاصيل لأول مرة، لكنها لم تتجاوز أذنيها؛ لم تترك أي أثر.
“لا شيء يمكن لعائلة هيفين أن تكسبه من تقديم شخص مزيف. كان الأمر غريبًا بما يكفي ليجعلني أتحقق. لم أكن لأصدق دون أدلة، لكن المدهش أن الأدلة كانت موجودة.”
نظرت ميل إلى غوفر بعينين فارغتين. لم يكن يبتسم، لكنه لم يبدو حزينًا أو غاضبًا أيضًا.
لم تكن ميل نداً يناسب وضع القناع عليه.
قال غوفر.
“ديوي روبو، كان في شبابه مجرد أداة بيد نقابة الجريمة. يُقال إنه اعتقد أن التظاهر بالأمية سيزيد من فرص نجاته، لذا أمضى حياته متظاهراً بأنه لا يعرف القراءة.”
دووي… عشيق نوما؟
“كان يضع ختم التاريخ على مذكراته ويستخدم حبرًا تم تصنيعه فقط في نفس العام. لذلك لم يكن لدي خيار سوى أن أوقن، حتى عندما كانت بليريا هيفين على قيد الحياة، كانت ميل سلوبي موجودة في مكان آخر.”
لا يمكن لشخصين كانا في مكانين مختلفين أن يكونا الشخص ذاته.
شعرت ميل بمرارة تجاه داميان لعدم تمكنه من إخفاء الأدلة بالكامل. ولكن غضبها سرعان ما تحول إلى ديوي، الذي ترك مذكراته بشكل ساذج رغم تظاهره بالأمية. كان طريق الكراهية قد شُق بالفعل في قلبها تجاه ديوي روبو.
بصوت مشحون بالغضب، سألت.
“ماذا حدث لديوي؟”
“قتلته.”
حتى هذا الشعور بالكراهية، لم يعد له معنى.
“لقد تخلصت من آخرين أيضًا. هل تريدين أن تعرفي من؟”
“لا، لا أريد.”
لم تكن بحاجة للسؤال عن السبب. غوفر كان بحاجة إلى السيطرة على الأدلة للتفاوض مع عائلة هيفين بالشكل الذي يناسبه.
لكن كل ذلك لم يعد يهم ميل.
النار التي كانت تشتعل في قلبها انطفأت بسرعة، تاركة رمادًا بارداً خلفها. لم تهتم بمن ماتوا، فهم، كما تعرف، لم يكونوا سوى حثالة مثل ديوي و نوما.
أشخاص لن يجدوا من يذرف عليهم دمعة واحدة حتى لو أقيمت لهم جنازات.
‘بالنسبة إلى غوفر، أنا لا أختلف عنهم.’
في تلك اللحظة، اختفى خوفها.
ربما كان هذا هو المصير الذي كُتب لها منذ البداية.
شعرت بشيء من الراحة مع اختفاء الندم، واستبدلته استسلامٌ مألوف. لم يكن هذا خطأها. على الأقل، هذا ما أقنعت نفسها به.
تخلت عن محاولة التماسك، وتركت ساقيها تستسلمان تماماً. سقط جسدها على الأرض بلا حول ولا قوة.
عندما رفعت رأسها، قابلتها نظرات غوفر. لم تُبعد عينيها عنه ولو للحظة.
كانت نظراته مثل تلك التي تتخيلها على وجه وحشٍ مفترس يطارد فريسته.
سألت ميل.
“هل ستقتلني أيضًا؟”
يا لها من فكرة حمقاء! كيف تجرؤ على طرح سؤال كهذا؟! احتضنت ركبتيها بيديها ووضعت ذقنها عليهما، غير مكترثة بانزلاق ثوبها على الأرض.
“حتى لو قررت أن تعفيني، سأموت في النهاية. لقد سمعت مرارًا أن اكتشاف حقيقتي يعني نهايتي.”
“من الذي أخبرك بهذا؟ داميان؟”
“ومن غيره؟”
لم تعد تعرف. باتت غير مكترثة بما سيحدث.
طأطأت رأسها، كما لو كانت سجينة تنتظر حكم الإعدام. لم تدم حالة الصمت طويلًا.
قال غوفر بهدوء لكنه حمل كلمات كالخناجر.
“ميل سلوبي، بليريا هيفين. ميل سلوبي، بليريا… هيفين.”
رن صوته كما لو أن كعب حذائه يطرق الأرض.
“جدتي، السيدة الكبرى لعائلة أولنايتر، كانت دائمًا قاسية. لم تترك إلا وريثين اثنين، وأرسلت الآخر إلى بلد بعيد، ومع ذلك، كانت تخبرني دائمًا، إذا أردت أن تصبح دوقًا، عليك أن تكون مثاليًا.”
صمت للحظة، ثم أضاف.
“لا يمكنني أن أتسامح مع أي خطأ. سواء كان ذلك بسبب خطأ، أو افتراء، أو حتى حادث. إذا لم تكن مثاليًا حتى النهاية، فلن أمنحك هذا اللقب. هل تعتقدين أن ذلك ممكن؟”
أجابت بصوت خافت.
“لا.”
“ومع ذلك، ذلك المستحيل تحقق، أو هكذا بدا، حتى الآن.”
زاد انكماش ميل أكثر فأكثر.
“الخطبة مع عائلة هيفين كانت قرار جدتي منذ وقت طويل. ومع ذلك، إذا تبين أنكِ لستِ الحقيقية، فسيكون ذلك خطأي. وهذا يزعجني.”
كان الظلام الذي يغلف رؤيتها يجعل أذنيها أكثر حساسية. بات صوته القريب مخيفًا. تساءلت ما إذا كانت النهاية قد اقتربت.
ببطء، أغمضت عينيها المغلقتين بالفعل. وفجأة، همس صوت الشيطان.
“وماذا عنكِ؟”
لم يكن الصوت صاخبًا أو حادًا، لكنه كان واضحًا كالنقش في الحجر.
ما رأيكِ؟ ليس رأي بليريا، بل رأي ميل.
خف الضغط عن يديها التي كانت تحتضن ركبتيها.
رفعت رأسها وفتحت عينيها. كانت الرؤية غير واضحة بسبب الضغط الذي مارسته جبهتها على ركبتيها، ولكن تدريجيًا، بدأ كل شيء يتضح.
رأت غوفر جالسًا أمامها، مائلًا نحوها، يكاد يقترب وجهه منها.
قال بنبرة منخفضة لكنها اخترقت قلبها.
“هذا ليس قراركِ، ومع ذلك، هل أنتِ مستعدة لتحمل العواقب وتموتي من أجله؟”
كان غوفر يبتسم كالعادة، منذ اللحظة الأولى التي التقيا فيها. كانت ابتسامته جميلة، كما لو أنها منحوتة بعناية لتكون مثالية دائمًا.
“…لا.”
أجابت ميل بصوت أشبه بمن وقع تحت تأثير سحر، كلماتها خرجت دون وعي.
“هل يبدو لكِ الأمر جيدًا؟”
كيف يمكن لأي شخص أن يرضى بحياة كهذه؟ أن يُستعبد طوال حياته، أن يُباع لنبيل عجوز، أن يُجبر على أداء دور بديل لشخص آخر، ثم يموت هكذا؟
لم تكن تريد أن تعيش بهذه الطريقة. ولم تكن تريد أن تموت هكذا.
حدقت ميل في غوفر، كما لو أنه المسؤول عن كل ما جرى لها، وعيناها مفعمتان بالغضب.
“لا، لا أقبل. أشعر بظلم قاتل. لا أريد أن أموت.”
لكن ما الفائدة؟ ما الذي يمكن أن يتغير لمجرد شعورها بالظلم؟ لم يحدث يومًا أن تغير شيء بسبب شكواها. لم ينصت إليها أحد من قبل. لماذا الآن؟
ثم قال غوفر، بهدوء يكاد يكون مخيفًا.
“لهذا السبب، وبعد الكثير من التفكير، قررت ألا أجعل عيوبكِ مكشوفة للعالم.”
لماذا إذن؟
“لقد أصبحتِ أفضل من أول مرة التقينا فيها. وستتحسنين أكثر في المستقبل. يومًا ما، سترتدين قناعًا رائعًا لن يتعرف عليكِ أحد تحته. وعندما يأتي ذلك اليوم…”
بدأ شعور الضعف الذي رافقها طوال حياتها يتحول ببطء إلى شيء مختلف. كأن قلبها الميت قد بدأ ينبض من جديد. نبضات ثقيلة.
“فلنتزوج يا بليريا.”
أرادت ميل أن تتجنب النظر في عيني غوفر. كان جماله مُرهقًا لمشاعرها، يصعب عليها تحمله. لكنها لم تُبعد نظرها عنه، ربما لنفس السبب.
مع إصرارها على مواجهة عينيه، رغم سخونة الدموع التي تجمعت في عينيها، انزلقت دمعة على خدها لتترك أثرًا واضحًا.
قالت بصوت متردد، لكن يحمل تحذيرًا واضحًا.
“إذا تقدمنا خطوة أخرى، لن تتمكن حتى من التهرب من المسؤولية مدعيًا الجهل يا غوفر.”
رد بابتسامة ماكرة.
“إذا تم كشفنا، سأُلقي باللوم عليكِ وأهرب.”
تابعت، بابتسامة حزينة.
“لكن رئيس عائلة هيفين وعد بإخفائي إذا مات.”
“تبدو صحته في تحسن مستمر. أظن أن داميان لن يجرؤ على التحرك بتهور، أليس كذلك؟”
“داميان… هل سيتركني وشأني؟”
“إذا أقمنا حفل الزفاف، ستكون عائلة هيفين في عجلة من أمرها لدفن السر. إن انكشفت الحقيقة لاحقًا، فلن تُحل الأمور بتبادل بعض الثمن فحسب.”
تساقطت دموع ميل بلا توقف، لدرجة أنها لم تعد قادرة على رؤية ملامحه بوضوح. وعندها فقط، تمكنت من طرح السؤال الذي أرادت طرحه منذ البداية.
“لماذا تساعدني؟ لماذا تراعي ظروفي؟”
قال غوفر وهو يخلع قفازه.
“أنا فقط…”
ثم مسح بلطف دموعها التي بللت خدها. لم تكن يده ناعمة كما تخيلت. كانت خشنة، مليئة بالندوب التي خلفتها سنوات من حمل السيف، وبها آثار حروق واضحة. ومع ذلك، كانت دافئة.
دفء جعلها تتنفس بصعوبة، وكأنها ستتذكره مدى الحياة.
“أنا فقط أرغب في الزواج من بليريا هيفين. العيوب التي لا يعرفها أحد ليست عيوبًا على الإطلاق. بالنسبة لي، أنتِ ما زلتِ ابنة عائلة هيفين.”
لم تستطع فهمه. كيف يمكن لشخص يعرف أنها مزيفة أن يرفض التراجع عن اختياره؟
هل كان دوق عائلة أولنايتر مثاليًا إلى هذه الدرجة؟ أم أن هذه هي طبيعتهم؟ أم أن هناك سببًا لم يخبرها به بعد؟
كونها نشأت كفتاة عادية، لم تكن ميل قادرة على فهم عالم النبلاء.
ومع ذلك، عندما نظرت إلى غوفر وهو يبتسم لها، شعرت أن كل تلك التساؤلات لم تعد مهمة.
وكأن كل شيء سينتهي بشكل جيد، مهما كانت الظروف.
قال لها بصوت هادئ.
“لا تدعي أحدًا يكتشف الأمر. إذا حدث ذلك…”
انتهى حديثه، لكنها فهمت المعنى.
كانت الحرية التي طالما انتظرتها تُنتزع منها شيئًا فشيئًا، ومع ذلك، لم تشعر بالغضب.
مشاعر غامضة اجتاحت كيانها، وكأنها تبتلع كل ما هو سلبي. بدأت تصدق شيئًا بدا مستحيلاً.
ربما كنت أعيش كل هذا الوقت من أجل هذا اليوم.
قال غوفر.
“سأجعلكِ حقيقية.”
التقط القناع الذي كان ملقى على الأرض بإهمال، واقترب بيده نحو وجهها. لم تحاول ميل التراجع، ولم تتجنب حركته.
ابتسم غوفر، وعندما وضع القناع على وجهها، شعرت ميل للمرة الأولى بأنها أصبحت بليريا هيفين حقًا.
***
في ذلك اليوم، أصابت بليريا هيفين لعنة غامضة.
لعنة خفية لدرجة أن أحدًا لم يلاحظها، لكنها كانت قوية بما يكفي لتقيد قلبها إلى الأبد.
وفي المقابل، اكتسبت شخصًا يقف بجانبها.
تعليمات عائلة هيفين، ونصائح غوفر، جعلاها نموذجًا مثاليًا للنبلاء.
ومع ذلك، كانت محاولاتها لأن تصبح حقيقية تؤكد زيفها بشكل أكبر.
خمس سنوات مضت، تحملت خلالها ميل هذا الزيف يومًا بعد يوم. وأخيرًا، تم تحديد موعد زفاف بليريا و غوفر.
***
عندما كان غوفر في العاشرة من عمره، أعطاه أحد الصيادين جروًا صغيرًا.
كان ميكسل، ابن عمه الأكبر، يقف بجانبه، وقال له بنبرة ساخرة.
“أنت غريب.”
كان غوفر يحمل الجرو، يتفحص أذنيه المتهدلتين، ويشد ذيله بلطف، ويقلب جسده الصغير يمينًا ويسارًا.
قال ميكسل بنبرة متعجبة.
“إنه كلب هجين. عيناه تبدوان كأنهما عمياء، وأذناه ليستا مميزتين. وحتى حجمه أصغر من الطبيعي. لماذا اخترت هذا الجرو تحديدًا؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"