منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها عتبة المجتمع الأرستقراطي، كنت شديدة الحذر.
لم أصرّح مطلقًا بلقائي الأول مع أي شخص، وتفاديت بحذر بالغ التورط مع أي شخص قد يعرف ليريبيل الحقيقية.
السبب كان واضحًا: تفادي انكشاف فقداني للذاكرة.
لو انكشفت الحقيقة، لعمت الفوضى من كل حدب وصوب.
كان من المقبول أن يقال إن شخصيتي قد تبدّلت.
فعند جمع الوقت الذي قضيته في قصر ماركيز فيديليو والسنوات التي قضيتها متنكرة كخادمة في كاسروسيان، فإن نحو سبع سنوات قد انقضت.
وسبع سنوات كافية لأن يظن الناس أن الطباع قد تتغير.
لا سيّما وأنني على وشك أن أترقى إلى مصاف طبقة الأثرياء الجدد؛ لذا، لم يكن من المستغرب أن يطرأ تحول على سلوكي.
أما إن انكشف أنني لا أملك أدنى ذكرى من الماضي، فسيُفتح باب الاحتيال على مصراعيه.
سيتقاطر الطامعون والمدّعون، متظاهرين بأنهم خطّابي السابقين أو مطالبين بديون تعود لعائلاتهم.
لهذا السبب، لم يكن بمقدوري حتى استخدام الحجة القديمة المألوفة: “فقدان الذاكرة”.
وها أنا الآن، أشعر وكأن كل حذري تبخّر في لحظة.
من بين كل الدعوات التي اطلعت عليها، اخترت واحدة من أكثر العائلات النبيلة فقرًا وتواضعًا، فقط لأكتشف أنهم نظموا الحفل باسمي!
لم يعد أمامي سوى أن أتحلى بمزيد من الحذر.
“…؟”
كنت شاردة، أتابع خطواتي بهدوء حين لاحظت مجموعة من الرجال يرمقونني من بعيد بنظرات ثابتة، ثم بدأوا يقتربون مني فجأة وكأنهم يتسابقون.
لم يكونوا يركضون فعليًا، لكن طريقتهم في التقدم السريع أوحت بذلك.
بدا كأنهم يهمّون بالعدو.
“تبدين فاتنة كعادتك.
هل تذكرينني؟”
“أنا والتر.
التقينا قبل أسبوع، هل تتذكرين؟”
“كيف حالك؟ أجرينا حديثًا ممتعًا آخر مرة…”
“تشرفت بلقائك.
اسمي تشارلز.”
راحوا يتحدثون من حولي بصخب، كأنهم أفراخ تتوسل الطعام من أمّها.
ومن خلفهم، رأيت بعض السيدات النبيلات وكبار السن يرمقوننا بانزعاج ظاهر.
الفتيات الجميلات تعيقهن فساتينهن الفاخرة، وكبار السن يفتقرون إلى لياقة الشباب اللازمة للمزاحمة، ففاتتهم الفرصة.
لا شك أنهم جاؤوا بدافع الشائعات التي نشرها الفيكونت ماثيو وزوجته، متطلعين للتقرب مني بأي وسيلة.
صحيح أن المال ليس كل شيء، لكن الثروة الطائلة…
لها جاذبيتها الخاصة.
من كان يتصور أنني، التي استُغلت سابقًا كحاكمة صورية، وخانها زوجها، وطُردت من منزلها صفر اليدين، سأتحول إلى محور الاهتمام وأكثر الشخصيات إثارة للفضول؟ والأسوأ من ذلك…
“رقتك وجمالك يسحرانني كل مرة.”
“أُغرمت بك من أول نظرة الأسبوع الماضي.”
“ربما لا تتذكرين، لكننا التقينا منذ سنوات، وأعجبت بك بصمت منذ ذلك الحين.”
“حين سمعت أنك ستتزوجين من الماركيز، بكيت بحرقة…
لو جمعت دموعي، لفاقت مياه نهر تيني.”
تمسّكت بابتسامة مجاملة بينما يتبارون في استعراض مشاعرهم أمامي.
رغم علم الجميع بعلاقتي مع تيسكان، إلا أنهم يتجرؤون على التقرّب مني بهذا الشكل الوقح.
صحيح أنني صرت نجمةً صاعدة في ساحة الزواج الأرستقراطي، لكن الوضع خرج عن نطاق المعقول.
كل ما يبتغونه هو تأمين مستقبلهم المالي بالارتباط بي، أنا الثرية اليتيمة.
وهذا كله فقط لأن تيسكان ليس هنا.
لطالما رافقني بنفسه، وإن تعذّر عليه، أرسل فرسانًا من دوقية إردان لحمايتي.
لذا فهذه هي المرة الأولى التي أُواجَه فيها بهذا النوع الفج من الإغراء.
“يوجد مقهى مميز في شارع إيفيلا، يُقدّم أفضل ماكرون…”
“هناك عرض مسرحي الأسبوع المقبل في دار الأوبرا…”
“ومهرجان ليلي في إقليم لوڤير…”
بدأوا يتسابقون في تقديم الدعوات، يتحدثون جميعًا دفعة واحدة، يقاطعون بعضهم بلا خجل.
“مطعم؟
البارونة تقيم في قصر الإمبراطورة الأرملة!
تتذوق أفخر الأطباق يوميًا، كيف لمطعم بسيط أن يرضيها؟”
“ماكرون؟ أتطلب من البارونة أن تهدر وقتها الثمين على حلوى؟ أي منطق هذا؟”
“العرض؟ أليس من بطولة ذلك الممثل الذي شوّه المسرحية العام الماضي؟ اقتراحك مثير للشفقة.”
“مهرجان لوڤير؟ أليس رمزًا للفجور؟ أحقًا تريد مرافقة البارونة إلى هناك؟ ما نواياك؟”
لم تمضِ لحظة حتى تحوّل التودد إلى جدال صاخب أشبه بالمهزلة.
“…”
راقبت هذا المشهد العبثي بنظرات نصف مغمضة، ثم جلت ببصري في أرجاء القاعة.
وهناك… رأيته.
رجل يقف متخفيًا خلف أحد الأعمدة، يراقبني من بعيد بعينين متحفظتين.
بدا وكأنه يحاول تفادي الأنظار، لكن نظراته كانت مركّزة عليّ بإصرار.
سارعت بصرف بصري، متظاهرة بالاهتمام بأجواء الحفل من حولي.
“يا إلهي! هيي!”
شعرت فجأة بيد تمسك بذراعي بقوة، جعلتني أترنح قليلًا.
“أخيرًا وصلتِ، ليري!”
تجهمت في اللحظة الأولى، ثم خفّ التوتر على وجهي حين نُودي اسمي بذلك الدفء المألوف.
التفتُّ لأنظر إلى من أمسكني، فإذا بها فتاة ذات شعر أحمر مجعد وعينين خضراوين فاتحتين.
من هذه؟ لم أرَها من قبل.
“كنت متأكدة أنك ستأتين، ليري!”
ابتسمت بعذوبة، وظهرت غمازة واضحة على خدها.
“أنا كتبت الدعوة للحفل الذي استضفته عائلتنا بنفسي، لذا لم أتخيل لحظة أنكِ لن تأتي.
لكن والدتي كانت قلقة جدًا من عدم حضورك.” قالت وهي تتشبث بذراعي بإصرار، تتحدث بحماس لا يتوقف.
“عائلتنا… الدعوة… أمي…”
من حديثها، خمّنت هويتها.
لا بد أنها “أودري”، الفتاة التي كانت السيدة ماثيو تبحث عنها.
“هل ازدَدْتِ طولًا مجددًا؟ يا لحظك!
أنا ما زلت قصيرة، وأنت تزدادين طولًا!”
عبست وغمغمت، وهي تهز ذراعي بلا رحمة.
في الواقع، ليريبيل التي أمتلك شخصيتها الآن، كانت طويلة كعارضات الأزياء، في حين أن أودري أقصر منها برأس كامل تقريبًا.
“لطالما قلْتِ إنك تغارين من طولي ونعومتي ولطافتي، لكنني في الحقيقة أنا من تحسدك…
يا إلهي، كنتِ تتحدثين مع هؤلاء السادة!”
اتسعت عينا أودري فجأة، وكأنها لم تنتبه للرجال من حولي إلا الآن، رغم أنها دفعتهم جانبًا بعنف لتصل إليّ.
“أعتذر، كنت فقط سعيدة جدًا بلقاء صديقة قديمة.”
قالت وهي تختبئ خلفي بخجل، تضحك بخفة.
رغم أنها أقصر مني، إلا أن جسدي أنحف، لذا لم يكن بوسعها فعليًا الاختباء خلفي، لكنها تصرفت وكأنها تستطيع.
“اسمي أودري لو ماثيو.”
نظر الرجال إليها بذهول وريبة: من هذه المتطفلة؟ لكنهم قابلوا تحيتها على مضض.
“يبدو أن الآنسة ماثيو على علاقة وثيقة بالبارونة.”
قال تشارلز، الذي قدّم نفسه من قبل،
فردّت أودري بإخراج لسانها بدلال:
“طبعًا!
نحن صديقتان منذ الطفولة.”
…آثرت الصمت.
كعادتي.
فأي زلة لسان قد تفضح فقداني للذكريات التي تخص ليريبيل السابقة.
“كنت طيبة جدًا مع ليري أيام فقرها، حتى أنني كنت أوصلها بعربتي.
أليس كذلك، ليري؟”
لا أعلم.
رجاءً، لا تسأليني.
لمجرد أنها تستحضر ذكريات تخص ليريبيل، لا يعني أنني أستطيع تذكّرها…
—
“ما بالكِ تتلوّين كالموتى الأحياء؟ لا تمسكني!
لماذا تتظاهرين بأننا صديقتان؟ الجميع يراقب!”
“عربة؟ لم تملكي عربة يومًا!
جئتِ اليوم بعربة مستأجرة، أليس كذلك؟”
“أوصلك؟ ها.
حسنًا.
لكن عليكِ العمل كخادمتي لستة أشهر، كما فعلتِ من قبل.
اتفقنا؟”
آه…
تذكّرت للتو.
نظرتُ إلى أودري، التي ما زالت تبتسم بحماس مصطنع، وتعلو وجهها تلك المرارة المختبئة خلف البهجة الزائفة.
نعم، إنها الفتاة التي قابلتها فور دخولي إلى هذا العالم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 98"