“هل كنتِ بخير؟”
عندما دخلت، نهض كاسروسيان ببطء، محدثًا صوتًا خافتًا بكرسيه، وقد بدا وجهه مشوشًا مثل حركاته المرتبكة.
لماذا بدا هكذا؟ لقد أخبرته مسبقًا بنيّتي زيارته.
“آه… وماذا عن البارونة؟”
“أنا بخير أيضًا.”
أجبت بابتسامة، محاوِلة تجاوز إحساسي بالحرج.
توقف كاسروسيان في منتصف طريقه نحوي وتيبّس في مكانه، وقد احمرّ عنقه بلون فاقع.
هل قلتُ شيئًا غير مناسب؟ شعرت بالحيرة بينما كنت أفتش في ذاكرتي محاوِلة فهم سبب رد فعله.
هل بدر مني شيء في حديثنا بالحديقة أزعجه؟ لكن، مهما أعدت التفكير، لم أجد ما يستحق هذا الارتباك.
بل إن الأجواء كانت ودّية آنذاك.
“اجلسي.”
قال وهو يحكّ جبهته، ثم أشار إلى مقعد قريب.
“ما الذي جاء بكِ اليوم الى هنا؟”
حين طرح سؤاله ذاك، اجتاحني شعور خفي بخيبة الأمل.
لم أحب فكرة أن لقاءاتنا لا تحدث إلا إذا كان هناك دافع.
“تادا!”
أخفيت تلك المشاعر وقدّمت له ما جئت به.
لا يجب أن أشعر بالخذلان.
كنت أعلم مسبقًا أننا لا نلتقي دون أسباب.
لذا، اختلقت ذرائع متعددة كي أراه.
ويكفيني أنه، رغم مشاغله، منحني من وقته.
“سأقصّ شعرك.”
ما أخرجته من الحقيبة كان مقصًا خاصًا بالحلاقة.
“…”
رمش كاسروسيان ببطء وهو يحدّق بالمقص، ثم فجأة انحنى برأسه بشدة.
“جلالتك؟”
وضع يده على فمه، إلا أن وجهه احمرّ بشكلٍ واضح.
“هل تشعر بتوعك؟”
قلت بقلق واقتربت منه فورًا.
“كلا!
كلا، أنا بخير.
حقًا…”
لوّح بيده الأخرى بتوتر واضح.
“فقط… فقط أحتاج إلى… التجـ… التجهيز…” تعثرت كلماته، وأخذ يلوّح بيديه عشوائيًا.
أملت رأسي قليلًا، أراقب ردود فعله المربكة.
هل يقصد أنه بحاجة إلى الاستعداد؟
آه… لا تقل لي…
“بعض الناس لا يرتاحون عندما يلمس أحد شعرهم.”
قلت بابتسامة هادئة وقد أدركت ما يقلقه.
“في الواقع، حتى أنا لا أحب ذلك أحيانًا.
صوت المقص وهو يقترب من أذني وعنقي… مزعج.”
ربما شعر كاسروسيان بالضيق من فكرة وقوفي خلفه وأنا أحمل مقصًا حادًا.
وهذا طبيعي. لقد اعتاد على ارتداء الشعر المستعار، وكان يقص شعره بنفسه طوال حياته.
فلا بد أنه لا يراني شخصًا يمكن الوثوق به في موقف كهذا.
“ربما لم يكن عليّ قول ذلك.
أعتذر.”
تمتمت وأنا أخفض بصري بخجل.
لم أكن أتوقع أن مجرد اقتراح قصّ شعره سيسبب له كل هذا الارتباك.
والآن، أدركت سبب تردده يوم حديثنا في الحديقة.
لم يكن غاضبًا من تدخّلي، بل ابتلع كلماته خجلًا.
“كلا، ليس كما تظنين.”
“عذرًا؟”
كنت غارقة في أفكاري، فلم ألتقط كلماته بوضوح.
“لا شيء.”
أجاب وهو يهز رأسه بتعب.
“في الحقيقة، قصة الشعر كانت مجرد ذريعة.
جئت لأطلب منك معروفًا.”
ولئلا أزيد من حرج الموقف، أسرعت بطرح سبب زيارتي الحقيقي.
فذلك هو الدافع الأساسي، أما الشعر، فمجرد حيلة.
لا، لأكن صادقة مع نفسي، السبب الحقيقي هو أنني اشتقت إليه، فاخترعت أعذارًا شتى لألقاه.
“طلب؟”
“نعم.
هل ستكون متفرغًا مساء بعد غد؟”
حدّق كاسروسيان نحوي بذهول، وقد فُتح فمه نصف فتحة.
احمرّ وجهه فجأة كأنه سيشتعل، وبدأ يتمتم بكلمات غير مترابطة، أشبه بآلة تعطّلت فجأة.
—
“سأتولى الأمر بنفسي من الآن فصاعدًا.”
قالتها ليريبيل بثقة، الأمر الذي أربك كاسروسيان.
كيف لها أن تتحدث عن قضاء عمرها إلى جانبه بهذا الهدوء؟
هل فهمت عرضه بالزواج كدعوة مفتوحة للتعبير عن مشاعرها بحرية؟
كاسروسيان لم يعرف كيف يرد على هذا الاعتراف الصريح.
سواء تجاهله، أو قبِله على أساس أنهما سيتزوجان في نهاية المطاف، أو حتى رفضه، النتيجة واحدة: ليريبيل ستتأذى.
هو لم يكن يحبها كامرأة، بل كان يراها “كشخص”.
حتى حين اقترح أن يعيشان معًا بعد تخليه عن العرش، كان يقصد الصحبة، لا العاطفة.
لهذا السبب، بدأ يتهرّب منها.
لكنه الآن، وجدها أمامه تقول فجأة:
“هل أنت متفرغ مساء بعد غد؟”
هل هذا…
أشبه بموعد؟
“…”
شرد كاسروسيان، وبدأ يتخيل كل السيناريوهات المحتملة.
ماذا سيرتدي؟
إلى أين سيذهبان في العاصمة؟
ما المطاعم التي تستحق الزيارة؟
هل يصحبها إلى المنتزه المشهور بإطلالته الليلية الساحرة؟
“آه، لقد عبّرت بشكل خاطئ.
لم أقصد أن أطلب من جلالتك مباشرة، بل كنت أتساءل إن كان بإمكانك إرسال أحدهم.”
أعادته كلمات ليريبيل التالية إلى الواقع.
“…أحدهم؟” سأل ببطء.
“أمم…” ابتسمت ليريبيل ابتسامة محرجة، وبدأت تشرح سبب طلبها.
لم يكن موعدًا كما ظن، بل خطة انتقام كانت تنسجها بصمت.
“…حسنًا، فهمت.”
حين وافق، أشرق وجهها سعادة.
ولكن، وعلى نحو غير متوقع، شعر بغصة، وبغضب مكتوم، وخيبة أمل عميقة.
ذلك اللعين إردان…
أتمنى أن تموت أنثاء نومك الليلة.
لو أن إردان اختفى فجأة، لما كان على ليريبيل أن تقلق بشأنه، ولكانت قد خصّصت كل اهتمامها لمن تحب
… له هو.
ضاقت شفتا كاسروسيان بامتعاض مكبوت.
—
حين دخلت قاعة الحفل، وجّهت إليّ بعض النظرات الفضولية.
أولئك الذين تطلعوا نحو الباب بدافع الفضول، سرعان ما تغيّرت تعابيرهم ما إن رأوني.
وعمّ الهمس في أرجاء القاعة حتى كادت الأنظار كلّها أن تتركّز عليّ.
“يا إلهي، أليست تلك البارونة ليريبيل؟”
“لم أظن أنها ستحضر.
ظننت أنها ستتوجه إلى حفل ماركيز رولاند.”
“صحيح، بعضهم توسّل للحصول على دعوة للقائها وفشل.”
“انظري إلى لباسها… راقٍ وفاخر.
سمعت أن التنقيب عن جثة التنين لم ينتهِ بعد.
فمن أين حصلت على المال؟”
“لا بد أن أحدهم أقرضها.
العائدات التي ستحصل عليها ضخمة، ومن الطبيعي أن يفعل أحدهم ذلك.”
“لكن لماذا جاءت إلى هنا؟ هل تعرف السيدة ماثيو؟
هل أقامت عائلة ماثيو هذا الحفل خصيصًا لأجلها؟”
“كانت مدام ماثيو تفتخر بأن البارونة ليريبيل ستحضر حفلها، من كان ليصدق؟ على أي حال، يبدو أنها في قمة سعادتها الآن.”
وأنا أعبر القاعة، تسربت إليّ الهمسات المتناثرة.
أومأت برأسي برقة تجاه أولئك الذين تحدثوا عني، فأربكتهم تحيتي، وردّوا بابتسامات مهذبة متوترة.
“شكرًا على الدعوة، يا سيدتي.”
تقدّمت نحو السيدة ماثيو، مضيفة الحفل، وحيّيتها.
“أهلًا وسهلًا، بارونتي.”
إلى جوارها وقف زوجها، الفيكونت ماثيو، وكانت الابتسامة العريضة على وجهه لا تختلف كثيرًا عن تعليقات الحاضرين.
“لقد… أتيتِ!”
أمسك بيدي وقال، فوجهت له نظرة حادة ضيقة.
“آه، عذرًا.
شكرًا لحضورك.”
قال مستدركًا وأفلت يدي فور أن لاحظ تعبير وجهي.
“زوجي أحمق أحيانًا، أرجو أن تسامحيه، بارونتي.” قالت السيدة وهي تربّت على كتفه بخفة، ثم ابتسمت لي ابتسامة متكلفة.
“فهمت.
سأتابع جولتي الآن.”
تركتهم بعد كلمات قليلة، فظهر على وجهيهما خيبة أمل لم يحاولا إخفاءها.
ومن خلفي سمعت صوت الفيكونتيسة يقول: “أودري، أين ذهبتِ؟”
هل كانت تعرفني من قبل؟ ذلك الأسلوب في الحديث، والمصافحة، والتصرّف، ونبرة التوقّع…
لم يكونوا فقط يحاولون التقرب منّي، بل كانوا يعرفون ليريبيل قبل أن أمتلك جسدها.
وإن كان ذلك صحيحًا، فلا بد أن هذا الحفل أقيم خصيصًا لاستعراض علاقتهم بي.
خاصةً بما قالته الفيكونتيسة، وبمعرفتي أن عائلتهم ليست بالثراء الذي يسمح بإقامة حفل دون سبب وجيه.
لكن…
لماذا الآن تحديدًا؟
تنهدت بضيق، وخطوت بعيدًا وأنا أنقر على لساني بلطف.
___
الفصل اليوم فراشات 🥺🥺🥺💓.
التعليقات لهذا الفصل " 97"