“أنا… آسفة…”
“هاه…”
تنفّس إردان بعمق، وقد ارتسمت على وجهه لمحة من الخيبة، إثر اعتذار إيلوديا الخافت.
يا لبلاهته… كيف تجرّأ على تعليق أملٍ عابر بها؟ حوّل بصره إلى الورقة بين يديه؛ كانت المفاوضات مع ليريبيل بشأن الأرض والثروة أكثر أهمية لديه من أي جدال عقيم مع إيلوديا.
“أنتَ…” همست إيلوديا بدهشة مشوبة بالذهول، واتسعت عيناها الزرقاوان بامتعاض.
“كيف تجرؤ على معاملتي بهذه الطريقة؟”
لكن إردان ظلّ ساكنًا، عيناه لا تزالان مأسورتين بالكلمات المطبوعة أمامه، وكأن صوتها لم يلامس مسامعه قط.
“لقد ضحّيت بالكثير من أجلك!” صرخت، ملامحها مغلّفة بالخذلان والمرارة، وعيناها تغرورقان بالدموع.
لقد ذهبت إلى كاميلا لأجله، مدفوعة برغبة في مساعدته، وعلى الرغم من الإهانة التي نالتها، لم تجد منه كلمة عزاء.
“حقًا؟” رفع حاجبيه ببرود، مسلطًا عليها نظرة خاوية بعدما طوى الورقة بين يديه.
“ومن الذي أمرك بارتداء ذلك الفستان؟”
“…!”
“ذوقك لا يُحتمل.
وإسرافك في الترف لا يُطاق.”
كان في نبرته تهكم بيّن، إذ رأى أن اختيارها لفستان يستفز كاميلا تصرفًا ساذجًا.
لم يكن يعنيه سبب انزعاج كاميلا، بل أغاظه أن إيلوديا اقتنت فستانًا باهظًا دون اعتبار.
“لم أشتره من مالك.” تمتمت وهي تعضّ شفتيها، وصوتها يقطر قهرًا مكتومًا.
“إنه فستاني… جلبته معي.”
“من الدوقية؟ بالرغم من أوامري؟”
انبثّ من نبرته تهديد خفي، لكنها لم تأبه، إذ كانت غارقة في شعورها بالظلم.
لماذا يعاملها وكأنها تهدر أمواله، والفستان ملكها؟ بل، هل كان إردان قادرًا على امتلاك مثله؟ إن لم يكن يملك الوسيلة، فبأي حق يُلام من يملك؟
“نعم.
جلبته لأن مثله لا يُقتنى بسهولة!” ارتفع صوتها متحديًا.
“هل تظنّ أنك قادر على شراء فستان من تصميم مدام ناتالي؟ بل، هل تملك من المال ما يكفي لشراء فساتين يعادل ثمنها قصرًا بأكمله؟”
عندها، التوى فم إردان بازدراء.
إذن… هي تلمّح إلى أن تيسكان قادر على تأمين مثل هذه الفساتين، أما هو فلا؟
“وهل هذا مدعاة للفخر؟” مرّر يده في شعره، متبرمًا.
“تفخرين بأنك ارتديتِ ذاك الفستان ثم أُهنتِ من أجله؟ وتعودين لتتباهي؟”
“وهل تعرف لمَ ارتديته؟” تجاهلت لهجته التحذيرية، وأصرّت على المواجهة.
“لأنك فشلت في إدارة الإقطاعية كما يجب، وتركتها لفاسدين ينهشونها!”
ارتفع صوتها أكثر، وقد تدفّق من ثقتها بنفسها. “أموال الإقطاعية تتسرّب من كل صوب، وأنت تظنّ أنني أملك القدرة على شراء فستان فاخر؟ لقد ارتديت أفضل ما لديّ.
لا أكثر.”
قبل حضورها، كانت قد تحققت من كلام مدام مايكونري أن من ينهبون الإقطاعية هم رجال إردان نفسه، لا هي.
لذا، لم تجد في نفسها ذنبًا.
ضحك إردان ضحكة خالية من الشعور.
النساء… دومًا يُرجعن كل شيء للفساد والاختلاس.
هل بات ذلك ذريعة مشتركة بينهن؟ إلقاء اللوم على الآخرين… كم هو مثير للشفقة.
لم تدرك إيلوديا أن اتهامها لحاشية إردان بالسرقة كان بمثابة طعن مباشر في سلطته.
“اصمتي—” همّ أن يأمرها بالصمت، لكن فكرة خاطفة أوقفته.
عاد بنظره إلى الورقة بين يديه.
الاختلاس…
حينها قاطعته كلماتها:
“لنتزوّج.”
رفع إردان رأسه نحوها.
كانت واقفة بثبات، نبرتها هادئة، لكن وجهها يفيض عزيمة.
“إذا تزوّجتك وأصبحتُ ماركيزة، فستنصت إليّ الإمبراطورة الأرملة، وسأتمكن من فرض نفسي داخل المجتمع ومجابهة ليريبيل.”
“…”
“ما زالت علاقاتي التي نسجتها حين كنت دوقة قائمة، وسيقف أصحابها إلى جانبي.”
“…”
“وإن أصبحتُ سيدة الإقطاعية، سأطرد الفاسدين، وأدير شؤونها بنفسي.”
“…”
“إن تزوّجنا فحسب، فستنتهي جميع المشاكل. فلنفعلها الآن.
لقد كنا سنفعلها على أي حال.”
كانت واثقة أنه لن يرفض.
لأنها تؤمن بأنه يحبها.
رغم كل تلك القسوة، لم تكن تصدق أن الحب قد تلاشى.
“لاحقًا.”
لكن كلمته أتت كصفعة مدوية لم تتوقعها.
ما يشغله الآن ليس الزواج، بل السيطرة على ثروات ليريبيل وأملاكها.
“…ماذا؟” سألت، مبهوتة، غير مصدقة لما سمعته.
“احتفال آخر؟ أتعلمين كم أنفقنا على السابق؟”
“فلنسجّل الزواج رسميًا فقط…”
“قلت لاحقًا! لماذا كل هذا الإلحاح؟”
صرخته فجّرت الغضب في عينيها.
“قلت إنني سأساعدك إن عدتُ إلى طبقة النبلاء!”
عندها تغيّرت ملامحه إلى الغضب القبيح.
لماذا أتزوج من هذه المرأة؟
في نظره، كانت إيلوديا جائزة.
دليل نصره على تيسكان.
وقد راودته فكرة الزواج بها، كابنة عامة، ليثبت تفوقه.
لكن تيسكان لم يبدِ أي ندم، بل أصبح قريبًا من ليريبيل.
حينها، سقطت قيمة إيلوديا كغنيمة.
كل ما أحبه فيها كان جمالها وطبعها المطيع.
نظر إليها من رأسها حتى قدميها.
والآن، وقد أصبحت تعارضه، حتى جمالها لم يعد يراه.
“وما المشكلة إن سخروا منك لأنك من العامة؟” قالها ببرود خالٍ من الاحترام.
“م-ماذا تعني؟”
“أنتِ من العامة، أليس كذلك؟”
“…!”
ارتجفت عيناها كقصب في مهبّ الريح.
“ما الفرق إن أصبحتِ نبيلة بالزواج؟
هل تظنين أن الثياب الفاخرة تطمس أصلك؟”
“إردان!”
“كفى!” صرخ وضرب الورقة على الطاولة بضجر.
“هل كنتِ دومًا لا تجيدين سوى الشكوى؟ أين كنتِ حين كنت أنا مَن يحتاج إلى العزاء؟”
“لماذا تقول هذا؟!”
“إن لم يكن لكِ نفع، فارحلي بهدوء.”
شدّت قبضتيها حتى غرست أظافرها في راحتيها. كانت متأكدة أن احتقاره لها نابع من أصلها العامي.
هل أخبره؟ أنني لست مجرد فتاة من العامة، بل أنحدر من سلالة نبيلة؟ لكنها عضّت شفتها.
ثمة سبب جعلها تُخفي الحقيقة طوال هذا الوقت.
“ما الذي تنتظرينه؟ قلت لك اخرجي!” زأر بها وقد نفد صبره.
استدارت إيلوديا، شفتاها منطبقتان على ألم.
إن استمرّت في الجدال، فلن تجني سوى مزيد من التأخير في زواجهما.
—
في وقت لاحق…
“هل انتهيتِ من الحديث معه؟” سألتها السيدة مايكونري التي كانت تنتظر خارج غرفة إردان، بنبرة تنضح قلقًا.
شدّت إيلوديا على نفسها.
لم يعد أمامها خيار.
عليها أن تتزوجه، حتى إن تمّ ذلك دون موافقته.
هو يحبها، وسيفهم لاحقًا.
“سيدتي…
هل هنالك وسيلة للزواج من إردان فورًا… دون رضاه؟”
___
يلا بباي
وصلنا للراو 🥳🥳🥳.
التعليقات لهذا الفصل " 95"