بالنسبة للآخرين، لم تكن إلا سيدة عانت ظروفًا قاسية، ورجلًا نبيلًا يرافقها ويحميها.
لذا، لم يلقَ وجودهما اهتمامًا يُذكر.
لم تتعدَّ الهمسات تساؤلاتٍ حول سبب ظهور إيلوديا بذلك المظهر البائس، وكأنها فأر مبلّل غارق في النبيذ، وإن كانت تلك الحادثة ستُؤثر في علاقتها بليريبل.
“…”
باستثناء شخصٍ واحد، لمع في عينيه بريق غريب.
—
حدث ذلك بعد طرد إيلوديا…
“آه، يبدو أن وطأة العمر بدأت تثقلني.
منظر تلك الفتاة وهي تبكي بتلك المرارة أثار شجوني.”
“أشعر تمامًا بما شعرتِ به.
راودتني رغبة في أن أقدّم لها منديلي وأواسيها.”
“نحن الذين صقلتنا الحياة وأرهقتنا بتجاربها شعرنا بذلك، فكيف بمن هم أكثر رقّة؟ لا عجب أن الدوق الأعظم قد افتُتن بها.”
“بالفعل.
ورغم أن الفكرة بدت سخيفة، إلا أنني للحظة تساءلت إن كنت قد أسأت الفهم.”
بدأت السيدات النبيلات يتبادلن أطراف الحديث في حلقات صغيرة.
“أنا لست كذلك مطلقًا.” قالت كاميلا بابتسامة فخرٍ علت شفتيها، وهي تنظر إليّ.
“عذرًا؟”
“أنا الأقسى والأشرس بين الجميع.
ولا يزعجني ذلك أبدًا.” ضحكت ضحكة عالية، كما لو أنها تتباهى ببرود قلبها.
“لو أنها فقط أطاعت نصف ما طُلب منها… يا للخسارة.”
“حتى بعد انتقاد تريشا لها، واصلت التصرف وكأنها دوقة كبرى، دون أن تكلّف نفسها عناء تحيتنا كما يليق.”
“ركّزت على لفظة ‘عامية’ حين طُلب منها الالتزام بمنزلتها، لكنها رغم التوضيح، لم تستوعب خطأها.
يا للأسف.”
“لكن، لا بأس.
لا تزال صغيرة.
كنت زهرة المجالس في شبابي.”
“آه، بل الزهرة كنت أنا.”
“ماذا تقولين؟ لقد كنت الأجمل بلا منازع.”
وفي خضم هذا التباهي، وضعت السيدة تريشا كأس النبيذ على الطاولة بصوت مسموع وقالت:
“ليس من شأني أن أعلّق على خوض السيدة كاميلا في هذا الموضوع بسبب تلك الفتاة، لكن إقحامنا جميعًا في مسألة تافهة كهذه أمرٌ مزعج.”
ثم وجهت إليّ نظرة مباشرة.
“لكن من المفرح رؤية السيدة كاميلا بصحبة صديقاتها القدامى.
سيكون الأمر أكثر بهجة لو لم تُعكّره شائبة.”
آه… إذًا، هي تطلب مني المغادرة بلطف.
ومع كلماتها، بدأت بقية السيدات النبيلات ينظرن إليّ، ويبدو أنهن يؤيّدن رأيها.
حسنًا.
سأغادر إذًا.
ربما أستطيع التنفّس خارج هذا الجو الخانق.
“إنها ضيفتي.” قالت كاميلا فجأة، وهي تسند ذقنها إلى يدها.
فجلست على الأريكة في الحال.
ماذا أفعل الآن؟ شعرت وكأنني نبتة ناعمة أُلقيت بين أطباق الذئاب.
يا إلهي… التوتر يخنقني.
هالة غير مرئية تنبعث من تريشا وكاميلا، تتصادم بيننا، فتجعل الأجواء باردة ومشحونة.
جلست بينهما وحرّكت أصابع قدميّ المتخفية في الحذاء، ثم نهضت بحذر.
“ما الذي تفعلينه؟” سألتني كاميلا وقد بدا عليها انزعاج واضح.
“مع بالغ امتناني لدعوة السيدة كاميلا لهذا الجمع الراقي، ولما غمرتني به من لطف، إلا أنني لا أرى نفسي جديرة بالبقاء بينكن.”
عقدت حاجبيها باستنكار، وكذلك فعلت تريشا، التي كانت أوّل من لمّح إلى ضرورة طردي.
“من المحرج أن أكون غصنًا غضًّا بين زهور ناضجة يزهو بها هذا المجلس.”
بالطبع، لم يكن لديّ ما أقوله لهؤلاء السيدات النبيلات.
لكنني ضيفة كاميلا، والطعن في أحقية حضوري إهانة غير مباشرة لها.
في مواقف كهذه… إن قلتُ: “ما زال أمامي الكثير حتى أبلغ جمالكن المهيب!” فلن يُعد ذلك وقاحة، وقد يسمح لي بالخروج دون أن أسيء إليها.
وفجأة، قطعت إحدى السيدات الصمت.
“أوه، يا للعجب.”
اتّسعت أعينهن، ثم سرعان ما ضيّقنها وشرعن في الضحك.
“يا لهذه الكلمات!”
حتى كاميلا بدا أنها استملحت ما قلت، إذ ابتسمت وقالت: “ما رأيك، تريشا؟ ربما وجود غصن نضر بيننا، نحن الذابلات، يُبرزنا أكثر.”
“قد يكون كذلك.
لقد كنت قصيرة النظر.”
ماذا؟ أهذه تريشا ذاتها التي أرادت إخراجي؟ ابتسامتها الخفيفة أربكتني، فلم أجد ردًا.
لا… هذا لم يكن مقصدي.
كنت أبحث عن مخرج… لكن يبدو أنني سأضطر للجلوس مرة أخرى وأنا أتصبب توترًا.
“لكن ربما عبيرنا الثقيل أقوى من أن تحتمله برعمة يافعة، لذا سيكون من الأفضل أن نراعي ذلك.” قالت كاميلا وهي تلمس ذراعي برفق وتشير نحو الباب.
“اذهبي وخذي قسطًا من الراحة.
لا تبدين بخير.”
“شكرًا جزيلًا.” قلت وأنا أنهض بسرعة، جسدي متصلّب من التوتر، ثم غادرت القاعة.
—
“سيدتي ليريبيل؟”
نادَتني رونا، التي كانت تنتظر عند الباب، بعينين متسعتين حين رأتني.
“خرجت لاستنشاق بعض الهواء.” أجبتها باقتضاب، وسرت بسرعة نحو الحديقة.
“أخيرًا أستطيع أن أتنفس.”
نسيم بارد وارتخاء بعد عرق بارد جعاني أشعر ببعض الارتياح.
الحمدُ لله، ظننت أنني سأبقى هناك إلى الأبد.
“وجهك يبدو أفضل الآن.
قبل قليل، خُيّل إليّ أنك على وشك الإغماء.”
“أحقًا؟” بدأت أرخّي عضلات وجهي التي بقيت مشدودة طوال الساعات الماضية.
“رونا.”
“نعم؟”
“قولي للسيدة مايكونري أن تستفزّ عقدة النقص لدى إيلوديا، بتذكيرها بمكانتها الاجتماعية.”
كنت طوال الوقت الذي قضيتُه مع إيلوديا أخشى أن تكتشف كاميلا ما فعلتُه.
لكن هذا لا يعني أنني كنت غارقة في القلق دون تخطيط.
فإيلوديا كانت تشتعل غضبًا كلّما وُصفت بأنها عامية.
وإن نجحنا في الضغط على جرحها هذا، فقد تفصح
بنفسها عن كونها ابنة غير شرعية لأحد النبلاء.
لا أحد يعلم هذا السر سوى إيلوديا ووالديها… لكنني أعلم، فقد قرأته في القصة الأصلية.
إيلوديا لا تجيد كتمان مشاعرها.
وإن استمرّت مشاعر النقص في التفاقم، قد تنهار وتكشف حقيقتها.
لو علم إردان أنها ابنة غير شرعية، لانقلبت السماء.
فهو متغطرس بالكاد يتقبل الزواج من عامية، فكيف بابنة حرام؟ ربما تظاهر بالرضا ابتهاجًا بانتصاره على تيسكان، لكن كبرياءه لن يحتمل الارتباط بمنبوذة اجتماعيًا.
أنا لا أحتقرها لأنها ابنة غير شرعية، ولا أنوي فضحها أمام الناس.
إردان نفسه سيسعى لدفن هذا السر حفاظًا على ماء وجهه.
بالنسبة لي، كانت مكانتها مجرد ذريعة.
بدلًا من أن يتوسل إليّ لاستعادة ما يخصني، استغلّ إيلوديا لتقوم بالقذارة نيابة عنه؟ لأنه لا يقدر على كسر كبريائه؟ حسنًا، سأمنحه العذر الذي يحتاجه.
“لم أكن أعلم أنها ابنة غير شرعية.
لو علمت، لما التقيت بها أصلًا.
لقد خُدعت من تلك النكرة النجسة.” عذرٌ يحفظ به كرامته، وهو يطلب عودتي. ابتسمت بمرارة.
لم أشعر بذرة ندم لاستغلال حقيقة تلك المرأة التي حاولت سرقة ما هو لي، وأهانتني بكل وقاحة أمام كاميلا.
—
“لقد عدتِ، يا أمي.”
أومأت السيدة تريشا برأسها لزوجة ابنها، الكونتيسة الحالية، التي خرجت لاستقبالها.
“كيف حال جلالتها؟”
“بخير.” أجابت تريشا باقتضاب.
الكونتيسة، التي كانت تأمل في تبادل أطراف الحديث مع حماتها بعد زيارتها للقصر الإمبراطوري، اكتفت بابتسامة باهتة، ثم صمتت.
كانت تريشا، بملامحها الصارمة، ووقفتها المعتدّة، وتجاعيد الزمن التي أضفت إلى حضورها مهابة، امرأة يصعب الاقتراب منها.
لذا، لم تُلحّ الكونتيسة، وانحنت مجددًا بأدب.
“بخصوص البارونة ليريبيل…” قالت تريشا فجأة، مما أثار دهشة الكونتيسة التي ظنّت أن السيدة ستتجه فورًا إلى غرفتها.
“نعم، تفضلي.”
اعتدلت الكونتيسة في وقفتها وأجابت بهدوء، تحاول إخفاء دهشتها.
“إنها شابة جديرة بالإعجاب.”
مرة أخرى، عجزت الكونتيسة عن الردّ فورًا، وقد باغتها هذا المديح النادر من السيدة تريشا.
التعليقات لهذا الفصل " 93"