“هل ظننتِ أنني سأسلك طريق السذاجة مثلكِ فقط لأنني كنت عشيقة أيضًا؟”
كانت تلك إهانة مغلفة بأسلوبها الخاص.
“…!”
حدّقت إلوديا في كاميلا بدهشة، لكنها سرعان ما خفضت عينيها حين التقت نظراتها بالبرود القاسي في عيني كاميلا الكهرمانيتين.
ارتجفت وتراجعت وهمست بصوت مرتجف:
“لـ-لا، لم أقصد ذلك… كل ما في الأمر أنني تذكّرت لطفكِ معي ذات يوم، فلجأت إليكِ حين شعرت باليأس…”
توقفت فجأة. شعرت بشيء يبلل شعرها.
ما هذا…؟
ورغم شعورها الغريب، لم تجرؤ على رفع رأسها.
لكنها سرعان ما أدركت السبب: خمرٌ أحمر يتسلّل بين خصلاتها، يسيل على الأرض كسيلٍ دمويّ.
“جلالة الإمبراطورة الأرملة…؟” تلفّتت إلوديا بذعرٍ وذهول، تتطلّع إلى كاميلا بنظرة شاحبة.
كانت كاميلا تحمل زجاجة خمرٍ فارغة مقلوبة، وعينيها جامدتين.
قالت بصوت خافت حادّ:
“لن أدّعي الطهارة، لكنني أملك من الرشد ما يكفيني لأصمت حين أتلقى تمثالًا كهدية.
أما أنتِ، فقد عاملتني كجاهلة لا تعي شيئًا.”
“لـ-لماذا تفعلين هذا بي؟”
هزّت كاميلا رأسها بلا مبالاة، وهي تتأمل وجه إلوديا الذي بدا مظلومًا.
“حتى لو شرحتُ لكِ مئة مرة، فلن تفهمي.
هناك عقول لا يصل إليها التفسير.”
ثم تنهدت وأضافت: “أكرهكِ بما يكفي لأسكب النبيذ على رأسك.
فلا تجرّبي إزعاجي مجددًا.”
وألقت الزجاجة أرضًا قبل أن تستدير وتبتعد.
كما توقعت كاميلا، لم تجرؤ إلوديا على ملاحقتها أو محاولة كسب ودّها مجددًا.
حتى وإن استعادت إلوديا مكانتها كماركيزية، فلن تتمكن من الاقتراب من كاميلا.
بل إن حاولت، فستتهم كاميلا بأنها اضطهدت بريئة، دون أن تجرؤ على الاعتراف بأنها خدعتها سابقًا.
أما كاميلا، التي ساعدت كاسروسيان ودعمت الأمير كصانعة ملوك صارمة، فقد فضّلت أن تُعرف ببرودها على أن تُعد من الحمقى.
رغم أن الحقيقة… أنها لم تكن تحتمل رؤية ذلك الفستان فحسب.
ضحكت كاميلا وجلست من جديد على الأريكة.
بمجرد جلوسها، التفّت حولها سيدات النبلاء وبدأن بالتعليق:
“لابد أنكِ مررتِ بالكثير بسبب تلك الحمقاء، سيدتي كاميلا.”
“ولهذا السبب نُبذت من مجتمع النبلاء. يا للأسى.”
“من الآن فصاعدًا، لن يجرؤ أحدٌ على إزعاجكِ بمثل هذه السفاهات.”
كنّ قد فهمن رسالة الدعوة بوضوح: أرادت كاميلا أن يرين بأعينهنّ حماقة إلوديا، فلا يصدّقن أكاذيبها لاحقًا، ولا يسمحْن لها بالطعن في الإمبراطورة الأرملة أو العائلة المالكة أو الدوق الأكبر.
لو طلبت كاميلا منهنّ فقط تجاهل إلوديا، لظنن أنها تطلب معروفًا شخصيًا.
أما الآن، فقد شهدن السبب بأمّ أعينهن.
“كلكن قاسيات جدًا…” تمتمت إلوديا، ودموعها تنهال، وملابسها مبلّلة بالنبيذ.
“كيف لإمبراطورة أرملة أن تحتقر الآخرين فقط لأنهم أقل شأنًا؟”
لماذا تفعل كاميلا هذا؟ ولمَ كل هذه القسوة من السيدات؟ ألهنّ أن يكنّ بهذه السذاجة؟ أم أنهن خدعن بالكامل من ليريبيل؟
“يا لها من وقاحة أن تتدخل امرأة من العامة في حديث نبلاء.”
“ربما أرادت أن تشرح لنا كيف انحدرت من دوقة إلى لا شيء.”
لا… كل هذا لأني من العامة.
لهذا يحتقرونني.
يسخرون مني.
ليريبيل، رغم أنها من نبلاء الدرجة الدنيا، تبقى نبيلة.
فيحمونها ويطردونني.
“هذا جائر… قسوتكم مفرطة.”
ساد الصمت حين نهضت ليريبيل أخيرًا، وقالت بصوت بارد:
“لم تُلامي لأنك من العامة، بل لأنكِ خنتِني مع زوجي، وطمعْتِ في مكاني.”
“لم أفعل ذلك أبدًا!”
“ومع ذلك، جئتِ إلى السيدة كاميلا تطلبين منها أن تعيد لكِ ما كان لي.
لا وقاحة أعظم من هذا.”
اقتربت ليريبيل من إلوديا، وقالت لها وجهًا لوجه:
“ما حصلتِ عليه كان من حق إردان! وقد سرقتهِ بالخداع والدناءة…”
“أنتِ السبب! أنتِ من دفعتني إلى هذا!”
اقتربت منها ليريبيل أكثر، وهمست في أذنها المبللة بالنبيذ:
“حمقاء بما يكفي لتجري السيدة كاميلا إلى فضيحة منحطّة.
والأسوأ من ذلك… أنكِ لا تعرفين كيف تتصرّفين أمام أصحاب الشأن.”
ثم أضافت بنبرة هامسة:
“اعرفي مكانكِ، وكفي عن هذا الهراء.
وجودكِ بات عبئًا.”
اصفرّ وجه إلوديا من الذل.
“أتظنّين أن كل من وُلد من العامة أحمق؟! يا لجرأتكِ أن تكذبي حتى الرمق الأخير!”
تنهّدت ليريبيل بملل، وأدارت وجهها.
كانت كاميلا على حق.
بعض الناس لا يدركون الحقيقة مهما شرحتها لهم.
لوّحت كاميلا بيدها للخادمات، وقالت ببرود:
“أبعدوها.”
حاولت إلوديا أن تقاوم، وصرخت وهي تُسحب:
“ليس خطئي أنني من العامة! لماذا تصدّقونها فقط لأنها نبيلة؟ حتى أنها من النبلاء الأدنى! لا فرق بيننا…!”
لكن الباب أغلق خلفها، وأُبعدت عن ذلك الصالون الفخم وسيداته المتأنقات.
وكأنها أُعلنت رسميًا خارج مجتمع النخبة.
بكت إلوديا بحرقة.
شعرت بأنها فقدت كل شيء.
“عذرًا…”
رغم انكسارها، تقدم بعض الفرسان ومدّوا مناديلهم نحوها، لكن نظرات الخادمات الحادة أوقفتهم.
كانت رونا، خادمة ليريبيل، الأكثر غضبًا وهي تقف بالخارج تكاد تحترق حنقًا.
لكن إلوديا لم تنتبه، كانت غارقة في دموعها، تترنّح خارج القصر، مبلّلة بالخمر، تهيم كظلّ بائس.
لمحها بعض المتجولين قرب قصر الإمبراطورة الأرملة، كانوا ينتظرون ليريبيل.
“السيدة إلوديا؟”
التفت رجل من بينهم نحوها وقد عرفها.
“…”
توقفت إلوديا حين سمعت صوته.
أسرع الرجل، جاكسن، وسط الحشود نحوها.
“هل أنتِ بخير؟” خلع معطفه وألقاه فوق جسدها المبتل برفق.
يا لحسن حظها! لم يكن جاكسن مقربًا منها، لكنه أشفق عليها، وناداها تلقائيًا.
لم يكن يعلم أن هذه اللحظة ستمثل له فرصة ذهبية.
قد تكون هذه فرصته المنتظرة للاستثمار.
ابتسم بخفّة.
كان يسعى منذ مدة للحصول على تمويل لمشروعه، وكان يتردد على القصر على أمل لقاء ليريبيل أو جذب انتباه إردان.
وحضر حفل الخطوبة لهذا السبب تحديدًا.
ولذا، حين رأى إلوديا، من كانت مرشحة لتكون سيدة ماركيزية، لم ير مانعًا من استغلال الموقف.
“تفضلي، سأرافقكِ إلى العربة.” قالها وهو يسير بجانبها، طامعًا بأن تكون سبيله للحديث مع إردان.
“ساعدني…” همست إلوديا، تمسك بكمّه بيد مرتجفة، دامعة.
“أرجوك، أنقذني…”
تلألأت عينا جاكسن بطمعٍ خفي.
لقد اصطدت سمكةً ثمينة.
إن لبّى طلبها، قد ينال مقابلًا يفوق أحلامه… وربما يصبح من أركان بيت فيديليو نفسه.
انحنى قليلًا نحوها، وهمس:
“فلنذهب إلى مكانٍ هادئ لنتحدث.”
فأومأت برأسها، وسارت بجانبه مستسلمة.
التعليقات لهذا الفصل " 92"