اختارت إلوديا فستانًا من أتيليه ناتالي، لا بوصفه مجرد لفتة احترام تجاه كاميلا، بل كرمز ملموس لذلك الاحترام، يتجلى في ثوب أنيق يليق بالحدث.
إذ كانت العلاقة الطيبة التي جمعت كاميلا بالإمبراطورة الراحلة أوكتافيا معروفة لدى الجميع، ولذا بدا من الطبيعي أن رؤية كاميلا لإلوديا ترتدي فستانًا من أتيليه ناتالي، والذي قد يوقظ ذكريات تلك الإمبراطورة، سيبعث في نفسها شيئًا من السرور.
وزاد من أثر الصورة أن ملامح إلوديا، بشعرها الأشقر الفاتح وعينيها الزرقاوين، كانت تذكّر إلى حد بعيد بجمال أوكتافيا، مما ضاعف من وقْع المشهد على كاميلا.
قالت كاميلا بصوت متهدّج وهي تحني رأسها دون أن تُتمّ عبارتها: “أرى… إذن أنتِ تسعين لتذكيري بالإمبراطورة الراحلة أوكتافيا…”
توقفت إلوديا لحظة، مأخوذة بردة الفعل المفاجئة، وتساءلت في داخلها: هل تبكي شوقًا؟ أم أنّها متأثرة بصدق النية؟
لكن كاميلا انفجرت فجأة في ضحك عالٍ، اهتز له جسدها حتى أغرقتها الدموع، ودوّى صدى ضحكتها بنشازٍ غريب وسط صمت السيدات النبيلات اللواتي جلسن بوجوه واجمة، ومن بينهن ليريبيل.
وقفت إلوديا حائرة، تنظر حولها غير مستوعبة التناقض الصارخ بين ضحك كاميلا المدوي، والصمت القاتم الذي خيّم على المكان.
قالت كاميلا بعد أن هدأت قليلًا، ونبرة ساخرة تخترق صوتها: “مجرد فكرة أن تذكّرني فساتين ناتالي بالإمبراطورة أوكتافيا… تثير من السخرية ما يكفي لجعل كلبٍ ضال ينفجر ضاحكًا إن سمع بها.”
نظرت إليها إلوديا بدهشة وهمست بكلمات خافتة: “ماذا تعنين بذلك؟”
رمقتها كاميلا بنظرة جامدة وسألت: “أما سمعتِ أن الإمبراطورة أوكتافيا كانت ترسل لي في كل عام تمثالًا، يرتدي فستانًا من أتيليه ناتالي، مذ نُفيت إلى الفيلا؟”
ترددت إلوديا، إذ كانت قد سمعت شيئًا من ذلك، ولهذا افترضت أن كاميلا ستُسر بالفستان.
بالنسبة لها، كان ذلك دليلًا على اهتمام الإمبراطورة بكاميلا.
غير أن الأجواء المتوترة جعلتها تخشى البوح بما تعرف، فاختارت الصمت.
قهقهت كاميلا بسخرية مريرة، ثم ارتشفت من كأس النبيذ، وسلّمته للخادمة وهي تقول: “ظننتك ارتديتِ هذا الفستان لتسخري منّي، أو لعلك، كونك عشيقة بدورك، قررتِ أن تُظهري نوعًا من التضامن معي، باعتباري العشيقة الأخرى.”
كانت الإمبراطورة ترسل تماثيل مزينة بالجواهر، ترتدي فساتين فاخرة، لكاميلا، التي نُفيت إلى الفيلا لتعيش في ظلال الصمت.
وكانت الرسالة جليّة: تزيّني بمجد الماضي، وابقَي ساكنة كتمثال.
أما إلوديا، فقد جاءت ترتدي ذات الفستان الذي كانت التماثيل ترتديه، في مشهد لا يمكن تفسيره سوى كرسالة ضمنية: “اصمتي كما كنتِ”.
أو ربما تلميح بدعم خفي، رابط بين عشيقتين، بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت كاميلا لتكون عشيقة الأمير السابع، أو الإذلال الذي لاقته من زوجته الشرعية.
ومهما كانت الدوافع، فقد كان في ذلك ما يكفي لإهانة كاميلا، التي لم تستطع كبح غضبها عند رؤيتها لإلوديا.
ارتسم الخوف على ملامح إلوديا، وتمتمت بتوتر: “لم أقصد ذلك أبدًا…!”
قهقهت كاميلا بسخرية فجة، وقالت: “يا لكِ من حمقاء بحق.
لا تفرّقين بين السماء والأرض، وتتصرفين بلا أدنى بصيرة.”
كانت تنظر إليها بإشفاق ساخر، لا تكاد تصدق سذاجتها، معتقدة أن الاحترام يُكتسب بارتداء ثوب!
ثم أضافت: “كنتُ حمقاء أنا الأخرى يومًا، واعتقدت أن السيدة كاميلا والسيدة أوكتافيا في وئام.”
توالت الأصوات من النبيلات الحاضرات: “وأنا أيضًا.”
وحين بدأ التوتر بالتبدد قليلًا، انطلقت همسات خافتة بينهن:
“كم من الناس انخدع بذلك؟ لقد كانتا تتصرفان كأختين مقربتين.”
“ذلك الزمن كان ملتبسًا… لو عُرف أنهما في خلاف، لاندلعت أزمة.”
“لكني لم أتوقع أن هناك من لا يزال يصدق تلك الخرافة.”
في تلك اللحظة، بدت ليريبيل متيبّسة في مكانها، تفكر بذعر: “لو اكتُشف أنني كنت السبب…”
فهي من حثّت إلوديا على ارتداء فستان ناتالي عبر السيدة مايكونري، ظنًا منها أن كاميلا كانت تكره الإمبراطورة.
لكنها أساءت التقدير، وقد يكون لذلك عواقب وخيمة إن عُرف دورها.
قالت كاميلا بابتسامة خفيفة وسط الضجيج: “الآن، أصبحتُ فضولية حقًا… أريد أن أرى إلى أين ستقودنا هذه الحماقة.”
لكن إلوديا بدت شاردة، وكأنها لم تفهم بعد ما جرى.
سألتها كاميلا، وهي تسند ذقنها على يدها محدقة فيها بتمعّن: “أخبريني، لماذا جئتِ إليّ؟”
عندها فقط استعادت إلوديا أنفاسها، وشعرت أن هدوء كاميلا منحها لحظة أمان.
فبدأت بالبوح.
حكت كيف انهار حبها لتيسكان، وقررت الطلاق، ثم لقائها بإردان خلال إجراءات الطلاق الطويلة، وكيف أن ليريبيل التي لم تكن تحب إردان، تمسكت بالمال وظلمتها حين نعتتها بالعشيقة، ثم خدعت إردان واستولت على إقليم بيتْرول.
وأكّدت أنها لم تكن عشيقة أبدًا، وأن كل ما قيل عنها كان من اختلاق ليريبيل الطامعة.
وانفجرت باكية وهي تقول: “حتى الإمبراطورة الأم تُخدع بتلك المرأة الخبيثة!”
هكذا ظهرت إلوديا بصورة الضحية، بينما غابت عن ذهنها حقيقة أن إردان هو من حاول خداع ليريبيل لتفادي النفقة، بل وسعى لقتلها.
ساد الصمت، ولم يُسمع سوى بكاء إلوديا المكتوم.
ثم تساءلت إحدى النبيلات، وقد بدت مشوشة: “كيف تكون البارونة ليريبيل هي المخطئة؟”
وأضافت أخرى: “حقًا؟”
وقالت ثالثة وهي تنقر لسانها: “كيف تزعمين أنك لستِ عشيقة؟ وأنتِ كذلك!”
شهقت إلوديا بدهشة، وضعت يدها على فمها، متسائلة بمرارة: لمَ هذه الردود القاسية؟ لمَ لم يعربن عن تعاطفهن؟
أدركت أن هؤلاء النساء، اللواتي رسّخن مكانتهن عبر زيجات منظّمة، لم يستوعبن خيارها في إنهاء زواجها فقط لأن مشاعرها تلاشت.
بل رأين في مطالبة ليريبيل بالمال نتيجة خيانة عقد الزواج تصرفًا مبررًا.
بالنسبة لهن، لم يكن التقرّب من رجل متزوج أمرًا مقبولًا، ولا أخلاقيًا.
تنهدت كاميلا بمرارة وقالت: “كنتُ فقط أود معرفة مدى الحماقة التي تعيشينها… فاستمعت لكِ.”
ثم أخذت زجاجة النبيذ من يد الخادمة المتحفزة، وقالت: “كم ينبغي أن أكون ساذجة كي أظن أنكِ جئتِ تطلبين دعمي في هذه المسرحية البائسة؟”
ثم وقفت، والزجاجة في يدها، وتقدّمت بثبات نحو إلوديا.
التعليقات لهذا الفصل " 91"