“ها أنتِ هنا إذن.”
استدارت كاميلا، التي كانت جالسة على رأس الطاولة تتحادث مع سيدات النبلاء، برأسها نحو إلوديا.
وبمجرد أن لفتت نظرها إليها، التفتت أعين السيدات جميعًا نحو الوافدة.
ابتسمت إلوديا ابتسامة خجولة وهمّت بتحية كاميلا: “لقد مر وقت طويل منذ لقائنا الآخ—” لكن عيناها اتسعتا فجأة؛ المرأة الجالسة إلى جوار كاميلا بكل ثقة لم تكن سوى ليريبيل.
“ماذا تفعلين هنا؟” نسيت وجود كاميلا تمامًا وسألت بنبرة مرتجفة، قبل أن تضيف بصوت مختنق دامع وهي تغطي فمها بكفها:
“ماذا تنوين أن تفعلي بي هذه المرة…؟”
قالت كاميلا، متجاهلة ملامح الضعف التي بدت على إلوديا: “كم من السنوات مضت منذ دخلتِ مجتمع النبلاء، ومع ذلك ما زلتِ تجهلين أبسط قواعد الإتيكيت.”
لقد خُدعت تمامًا، فكّرت إلوديا وهي تزمّ حاجبيها. بدلًا من أن تتساءل عمّا فعلته ليريبيل، اختارت كاميلا أن تؤنبها.
لا عجب، فالخداع بلغ حدًا جعلها تجلب ليريبيل إلى هذا اللقاء.
“أعتذر.” همست إلوديا بانكسار، ثم انحنت برأسها وركبتيها قليلاً، مما أثار امتعاض سيدات النبلاء اللاتي تجهمت وجوههن لاختصارها في التحية.
“هل كنتِ بخير، يا جلالة الإمبراطورة الأرملة؟” قالت ذلك بابتسامة متكلّفة لم تلحظ من خلالها تعابير الاشمئزاز التي علت وجوههن.
لكن ما إن نطقت بلقب “الإمبراطورة الأرملة” حتى تلبدت ملامح كاميلا.
“كم مرة عليّ أن أكرر عليكِ؟”
“عذرًا؟”
“لا تناديني بالإمبراطورة الأرملة.”
“كيف لي أن أتجرأ وأخاطبكِ باسمكِ مباشرة، يا جلالة الإمبراطورة الأرملة؟” رفعت رأسها ومدّت جسدها باعتدال وهي تبتسم بكل تهذيب: “أعلم أن ذلك لطف منكِ، لكن مناداتي لكِ بهذا اللقب نابع من احترامي، فأتمنى أن تتفهمي.”
ضحكت كاميلا ضحكة خاوية ورفعت عينيها نحو الأعلى بسخرية.
وبجانبها، شدّت ليريبيل جسدها بتوتر.
سخرت إلوديا في سرّها.
كاميلا دائمًا هكذا، تتذمر من كل شيء، لكن في أعماقها، هي طيبة… على الأقل معي.
لقد التقت بها مرات عديدة ولم تعد تهابها.
أما ليريبيل؟ فهي لا تعرف الإمبراطورة الأرملة حق المعرفة.
ولن تبقى طويلاً في هذا المقعد.
بينما كانت إلوديا تحاول تهدئة نفسها بهذه الأفكار، قالت سيدة بشعر أزرق فاتح: “أهذه هي الدوقة الكبرى السابقة؟”
“نعم.” أجابت كاميلا باختصار.
“فهمت.”
ألقت إلوديا نظرة قلقة نحو مقاعد السيدات، لكنها عبست قليلًا… لا وجود لأي مقعد شاغر.
حينها صدح صوت السيدة تريشا، ذات الشعر الرمادي الفاتح: “بصراحة، ليس الأمر فقط غير مريح أو مزعج، بل محبط أيضًا.”
استدارت إليها إلوديا ببطء وعينان متسعتان.
غير مريح؟ مزعج؟ محبط؟
أطلقت تريشا صوت “تسك” من طرف لسانها، وحدّقت في إلوديا التي كانت تحدق نحوها بذهول.
لم تكتفِ بتحية مختصرة للإمبراطورة الأرملة، بل تجاهلت أيضًا تحية سيدات النبلاء الأكبر منها سنًا.
حتى لو كانت ترى نفسها لا تزال دوقة كبرى، فهل هذا يبرر تصرفاتها؟
“هل اجتمعنا هنا لنقابل سيدة مثلها؟ ما الذي يفترض بنا أن نراه فيها؟”
هزّت السيدات رؤوسهن استياءً. فهي الآن مجرد عامية، ولم تعد تستحق هذه المجاملة.
“عذرًا، لكنني لا أرغب أبدًا في مخالطة أمثالها.” أطلقت تريشا كلماتها القاسية دون تردد.
ماذا؟ لماذا تهاجمني فجأة؟ عبست إلوديا، عاجزة عن فهم أسباب هذا العداء.
تكلمت سيدة أخرى، ذات شعر قانٍ يشبه اللهب: “ربما الهدف من دعوتنا هو أن نُرى لماذا فقدت هذه العامية مكانتها كدوقة كبرى.”
كانت الكلمات واضحة: لقد خسرت منصبها بسبب جهلها وسوء تصرفها.
وبهذا التصريح، لم تلمح فقط إلى أن إلوديا لم تعد نبيلة، بل أوضحت أيضًا أنهم كانوا يتغاضون عن أخطائها فقط احتراما لتيسكان.
الآن، لم يعد هناك ما يستوجب التسامح.
أنا الآن مجرد عامية؟ هكذا إذًا… عضّت إلوديا شفتها السفلى بشدة وقبضت على طرف فستانها.
“أنتِ لستِ دوقة كبرى بعد الآن.
أنتِ عامية.
لا تنتمي إلى هذا المكان.
اعرفي قدرك.” هكذا فهمت إلوديا كلماتهم.
قالت السيدة صاحبة الشعر القاني بسخرية: “كنت أتساءل عن سبب انتشار تلك الشائعات، لكنني الآن بدأت أفهم.”
ضحكت بازدراء، وكأنها اقتنعت أن إلوديا، التي كانت تُعد رمزًا للنبلاء، أصبحت مجرد خليلة.
قالت سيدة أخرى بشعر كحلي داكن وهي ترتشف النبيذ: “كم مرة تتاح لنا فرصة لرؤية وجه خليلة وقحة؟”
خليلة وقحة.
احمر وجه إلوديا بشدة، وبدأت أفكارها تتقافز بعنف.
هل يمكن أن تكون…
نظرت إلى ليريبيل، التي جلست بهدوء وكأنها لا علاقة لها بالأمر.
هل خدعت تلك المرأة ليس فقط الإمبراطورة الأرملة بل سيدات النبلاء أيضًا؟ جعلتهن يصدقن أنني أنا المخطئة؟ أنني الجانية؟ لا بد أن الأمر كذلك.
ولهذا بدأ الهجوم ضدي منذ اللحظة الأولى.
يا لها من خبيثة.
ثم جاءت كلمات كاميلا، لتقطّع سلسلة غضبها:
“لا تكنّ قاسيات عليها.
لقد بذلت جهدها، في النهاية.”
رفعت إلوديا عينيها نحو كاميلا، فوجدتها تسند وجهها إلى يدها وتبتسم بخفة:
“لقد ارتدت فستانًا من دار مدام ناتالي، محاولة منها للحفاظ على المظاهر.”
تلألأت عينا إلوديا، ورفعت كتفيها بفخر: “نعم، هذا صحيح.”
مدام مايكنري كانت على حق. ابتسمت إلوديا بارتياح.
مدام ناتالي… تلك التي كانت تصنع أثوابًا للإمبراطورة السابقة، وحتى التي قبلها.
ورغم أنها توفيت، فإن أولادها حافظوا على اسم الدار.
أثوابهم أصبحت نادرة، لا تُشترى حتى بالمال.
لذا، كي تُقابل كاميلا، اختارت إلوديا أحد أثوابها النادرة من تلك الدار.
“يجب على السيدة إلوديا أن ترتدي فستانًا من دار ناتالي! حينها ستدرك الإمبراطورة الأرملة على الفور أنها تبدي احترامًا، وستستمع لما لديها لتقوله.”
اتبعت نصيحة مدام مايكنري بدقة.
إردان سيغضب إن علم، لكنه سيسكت إن سارت الأمور كما ينبغي.
في الحقيقة، هذا الفستان جلبته خلسة من قصر الدوقية، رغم أن إردان أمرها بترك كل ما يخص منصبها السابق.
لكنها لم تستطع التخلي عن أثواب ناتالي النادرة.
لن يغضب، وإن غضب، فسيصفح إذا ما سارت الأمور على ما يرام.
وبالفعل، كما توقعت، لاحظت كاميلا الفستان وأدركت نية إلوديا في إظهار الاحترام.
الآن، ستستمع لها.
وسيدات النبلاء المخدوعات بكلمات ليريبيل، سيتغيّر رأيهن.
وسيتحوّل سهم الإهانة نحو ليريبيل.
قالت كاميلا، بعد لحظة صمت: “هل اخترتِ ارتداءه خصيصًا من أجلي؟”
أجابت إلوديا بابتسامة مشرقة: “نعم. انتقيته بعناية، على أمل أن يُذكّركِ بالإمبراطورة الراحلة أوكتافيا.”
لكنها لم تلاحظ وجوه السيدات الأخريات وقد اعتراها الوجوم، وكأنهن يرجون أن تمر هذه العاصفة سريعًا.
التعليقات لهذا الفصل " 90"