“إن لم تكن علاقتكِ بها على ما يُرام، فلماذا كنتِ تكثرين من دعوتها إلى القصر الإمبراطوري؟”
حين طرح تيسكان سؤاله، رمقتُ كاميلا بصمت، أترقب إجاباتها.
كنت، كسائر الناس، أظن أن نظرتها تجاه إيلوديا تحمل قدرًا من التقدير.
كاميلا كانت من الشخصيات التي ظهرت مرارًا في الفصول الأخيرة من الرواية الأصلية؛ اعتادت دعوة إيلوديا، وريثة دوقية القصر الكبرى، إلى قصر الإمبراطورة الأم، وتغمرها بالنصائح والهدايا.
وعلى الرغم من أن الرواية كانت تُروى من منظور إيلوديا، فإن تعامل كاميلا بدا ودودًا وعادلًا.
لذا، عندما علمتُ أن إيلوديا تعتزم زيارتها، شرعت في حياكة خطة تُعكر صفو العلاقة بينهما…
بمجرد أن أخبرتني السيدة مايكنري أن إيلوديا حدّدت موعدًا للقاء كاميلا، بدأتُ بتنفيذ مخطط لإفساد علاقتهما.
خشيت أن تسعى كاميلا لدعم إيلوديا أو حتى تُحاول إقناعي بإعادة المياه إلى مجاريها معها.
ورغم ما أدين به لكاميلا — فهي أمّ من أنقذني، وحامية لمظهري — لم يكن في نيّتي أبدًا أن أتصالح مع إيلوديا.
بل كنت أرغب في قطع سُبل الدعم عنها تمامًا.
قالت كاميلا، وهي تزفر زفرة طويلة:
“بوصفي الأكبر بين أفراد العائلة الإمبراطورية، لم أُعارض زواج الدوق الأكبر علنًا، لكنني أبديت استيائي بصورة غير مباشرة، وربما تسببت له بشيء من الحرج.
لكنه لم يُبدِ أي نية للتراجع عن قراره، فماذا عساي أفعل؟ أحيانًا يتوجّب على الكبار أن يتنازلوا.
حاولت أن أبدو متقبّلة لزوجته، حفاظًا على كرامته وطمأنةً لكِ في الوقت ذاته.”
شَردت الدهشة في ملامح تيسكان؛ يبدو أنه لم يتوقّع أن كاميلا كانت تفكر في وضعه الخاص.
“لا داعي لأن تتفاجأ.
فالدوق الأكبر من سلالة العائلة الإمبراطورية، وإن شُوّهت سمعته، لطّخت أثرها سمعة الأسرة كلها.”
كان تيسكان ابن عم بعيد لكاسروسيان، يجتمعان في الجدّ الأعلى ذاته، ويتشاركان العينين الحمراوين الموروثتين.
“رغم أن الأمر أصبح من الماضي، أقدّر لكِ اهتمامك.” قال تيسكان، وهو يحك مؤخرة رأسه بانزعاج.
ابتسمت كاميلا ببرود وقالت:
“لكن حرصي على مكانته شيء، ومشاعري الحقيقية تجاه تلك الفتاة شيء مختلف تمامًا.
كلما وقعت عيناي عليها، رغبتُ أن أطلب من الدوق أن يُفحص بصره.”
“…ولمَ ارتضيتِ لقاءها اليوم إذًا؟” سأل تيسكان، ربما في محاولة لتغيير الموضوع بعدما أربكته كلماتها.
ضحكت بخفة، ثم قالت:
“لأنني شعرت بالفضول.
فتاة باتت من عامّة الشعب… ما الذي يمكن أن تجرؤ على قوله حتى تطلب مقابلة خاصة معي، أنا الإمبراطورة الأم؟”
كنا نعيش في مجتمع تحكمه الهرمية بصرامة.
وحتى إن كانت إيلوديا دوقة سابقة أو مقربة من كاميلا، فلا بد من مراعاة الأصول.
وطلب لقاء خاص من الإمبراطورة الأم من قبل فتاة من العوام، يُعد تصرفًا وقحًا.
ويبدو أن تيسكان أدرك ذلك أيضًا، إذ عبس وخفض بصره.
قالت كاميلا بنبرة لا مبالية:
“ربما ظنت أنني ما زلت أحتفظ لها ببعض المودة، أو أنها ببساطة واثقة بنفسها حدّ الغرور.
أردت أن أراها بعينيّ، ولهذا سمحت لها بالحضور.
في الواقع، كنت قد نسيت أمر الموعد تمامًا، فهو لا يستحق التذكر.”
“فهمت.”
تابعت كاميلا قائلة:
“لكن بما أن البارونة ليريبيل هنا أيضًا، رأيتُ أن لا بأس من الاستماع لما تود قوله.
إن رغبت، يمكنك الانصراف، يا دوق.
فلا أظن الحديث سيكون مسليًا.”
ردّ تيسكان بحزم:
“لا، سأبقى.”
أثار جوابه فضول كاميلا، فسألته:
“وما سر هذا الاهتمام المفاجئ؟”
ابتسم ابتسامة هادئة وقال:
“أشعر أنه سيكون ممتعًا.
المرة السابقة كانت كذلك.”
احتسى رشفة من شايه، فضحكت كاميلا بخفّة وهي تحدق فيه:
“الانتقام ممتع.
إنه شعور لذيذ، قوي، ويدفعك لاكتساح العالم. يمنحك شعورًا ساحقًا بالرضا.”
ثم بدأت تُسقط مكعبات السكر في كوبها… واحدًا، اثنين…
“لكن لا بد من التوقف في الوقت المناسب.
إن أسرتك حلاوة الانتقام وتماديت فيه…”
وبينما كانت تحرّك الشاي بعد أن أذابت فيه خمسة مكعبات سكر، أضافت:
“فلن يتبقى لك سوى الندم. فالحلاوة زائلة، ولا يدوم إلا الطعم المر.”
قطّبت حاجبيها، ثم أمالت الكوب وسكبت ما تبقّى فيه على العشب.
رفعت بصرها وقالت:
“هناك من يقترب… يا للعجب.” نظرت خلفي بابتسامة مائلة.
كنتُ أجلس وظهري لمدخل الحديقة، فلم أر شيئًا.
لكن من نبرتها، عرفت أن إيلوديا قد وصلت.
ضحكت كاميلا وقالت:
“أتَت وهي ترتدي ذلك الزي؟”
…لو علمت كاميلا أنني من خطّط لذلك المظهر، فسأكون في ورطة لا تُحمد عقباها.
لم أتجرأ حتى على الالتفات لرؤية إيلوديا؛ كانت نظرة كاميلا الغاضبة كافية.
كان جليًا أن إيلوديا ظهرت بالهيئة التي أردتُ لها أن ترتديها — تلك التي ستُفسد علاقتها بكاميلا تمامًا.
ولو كنت أعلم مسبقًا أن كاميلا لا تطيقها، لما تجرأت على هذا.
برد العرق على ظهري، وإن كشفت كاميلا حيلتي، فقد تُنهي أمري أنا، لا إيلوديا.
أشارت برأسها إلى الخادمة وقالت بهدوء:
“قولي لها إنني مرهقة من استقبال الزوّار، ولتأتِ في الموعد ذاته غدًا.”
“أمركِ.”
اقتربت الخادمة من إيلوديا، فيما أسندت كاميلا جبينها إلى كفها، تنحني بتعب فوق الطاولة، تحمل ابتسامتها الثابتة شيئًا يُثير القشعريرة.
قالت دون أن ترفع رأسها:
“لا تأتِ غدًا، يا دوق.”
“كما ترغبين.” ردّ تيسكان، وقد شعر بدوره بعدم الارتياح من نبرتها.
“أما أنتِ، يا بارونة، فسترافقينني.”
“نعم.” كنت محطمة من الخوف والندم، فلم أملك القدرة على الاعتراض حتى لو أردت.
—
بعد ذلك…
عادت إيلوديا إلى قصر الإمبراطورة الأم، تعض شفتها السفلى بينما تستعيد شريط البارحة.
كانت هناك امرأة تجلس قبالة كاميلا، لا يظهر منها سوى خصلات شعرها الأحمر القاتم، وإلى جوارها رجل بدا بوضوح أنه تيسكان.
هزّت إيلوديا رأسها في محاولة لطرد تلك الصورة.
ربما نسيت كاميلا موعدها معها، فاستقبلت ليريبيل وتيسكان دون قصد.
ثم، حين بُلّغت بوصول إيلوديا، تذكّرت الموعد وطلبت تأجيله.
نعم، لا بد أن هذا هو التفسير.
ورغم شعورها بالخذلان، حاولت طمأنة نفسها بأن كاميلا آثرت ليريبيل فقط لأنها وصلت أولًا.
لكن…
كيف استطاعت ليريبيل خداع الإمبراطورة لتقف إلى جانبها؟ لا يهم.
سأضع حدًا لذلك اليوم.
بمجرد أن تحكي كاميلا عن ما لاقته من ظلم على يدي ليريبيل، ستغضب حتمًا، وربما تنتزع منها الأرض واللقب.
شدّت إيلوديا قبضتيها بعزم.
إن لم ينتصر الحق من تلقاء ذاته، فسأجعل انتصاره حتميًا.
وقفت أمام الغرفة التي تنتظرها فيها كاميلا، تنفست بعمق… ثم فُتحت الأبواب على مصراعيها.
…؟
تجمّدت في مكانها.
الغرفة الفسيحة التي انتُصبت وسطها طاولة فخمة، لم تكن مهيّأة لاستقبال زائرة واحدة.
كانت الطاولة محاطة بعشر سيدات نبيلات.
شدّت قبضتيها بتوتر.
كنّ من جيل كاميلا، نساء ذوات نفوذ وسطوة.
حتى عندما كانت إيلوديا دوقة، لم تُتح لها فرصة التعامل معهن إلا نادرًا.
ما الذي يحدث؟ هل نسيت الإمبراطورة موعدها مجددًا؟ أم…
لكن بارقة أمل لمعت في عينيها فجأة.
هل تُراها تنوي تقديمي لهن؟
بعد أن طاردتها الشائعات، وسُلبت ألقابها ومكانتها، وأُقصيت عن المجتمع، لم يتبقَ لها شيء.
لكن، إن كانت كاميلا قد جمعت هؤلاء السيدات لمساندتها في استعادة موقعها الاجتماعي…
فبفضلهن، ستعود بسهولة إلى صفوف النخبة.
التعليقات لهذا الفصل " 89"