“ما الأمر؟”
“لو كانت السيدة مايكونري، لما غاب عنها أي أمر يمسّ أمنها.
لكنها، ومن دون أي تردد، قبلت أن تصبح خادمةً بطلبٍ مني، حتى قبل أن تُكلّفها السيدة ليريبيل بذلك.”
ارتسمت على شفتي ابتسامة هادئة.
“سأردّ لها هذا الصنيع ذات يوم، ولو كان بعد أن أُوارى التراب.”
لا زلت أذكر جيدًا تلك اللحظة الأخيرة التي رأيت فيها السيدة مايكونري.
كلماتها ما زالت تطرق مسامعي كما لو قِيلت تواً.
ربما أنها تقدّمت خطوة من أجلي، ساعيةً للوفاء بوعدها، رغم أن الجميع اعتقد أنني قد فارقت الحياة، تمامًا كما فعلت حين لبت ندائي دون استفسار أو معارضة.
“شكرًا لكِ، يا رونا… لأنكِ كنتِ إلى جانبي.”
أبعدت شرودي جانبًا، وعبّرت عن امتناني لرونا.
كنت أظن أنها ستتردد في مواجهة إردان بدافع القلق عليّ، لكن وقوفها الحازم أثار في صدري موجة امتنان لدفء قلبها.
“لم أفعل شيئًا يُذكر”، أجابت، وكأن ما قامت به لا يستحق الذكر.
“بالمقارنة مع خدمة السيدة بريسيلا، يُعدّ هذا ضئيلاً.”
كلماتها انتزعت مني ضحكة عفوية.
نحن الذين خدمنا بريسيلا، نشترك في أمر واحد: جرأة لا تخبو وشجاعة لا تعرف التراجع.
فملاقاتها يوميًا كان أشبه بمنازلة أكثر المصاعب فظاعة.
“من الآن فصاعدًا، سأهتم أنا بالتواصل مع السيدة مايكونري.
سيكون الأمر بالغ الإزعاج إن كُشف أن السيدة ليريبيل على اتصال بها.”
“أرجوكِ، وامتناني لكِ على ذلك.”
وفي تلك الليلة، وبعد أن أوكلت إلى رونا مهمة التنسيق مع السيدة مايكونري، وصلني خبر بالغ الأهمية، يمكنني استثماره على الفور.
—
“وصلتِ.”
عند بلوغي المكان المنشود، توقفت برهة، ثم رمقت الشخص الجالس قرب كاميلا، التي لوّحت بيدها بفتور، كأنما ضاقت بوجودي.
“…”
تيسكان، الذي التقت عيناه بعينيّ، ارتسمت على ملامحه ابتسامة متوترة، ما جعلني أتيقن أنه لم يكن من استدعى كاميلا.
“هل أصبحت العجائز يتطفلن على مواعيد الشباب؟” سألت كاميلا بسخرية بمجرد جلوسي على الطاولة في الحديقة، ولم تخلُ ملامحها من مكر مشاكس.
كما قالت، كان يفترض أن يكون لقائي بتيسكان لقاءً عاطفيًا.
لكن في الحقيقة، لم يكن سوى تمثيلية لذرّ الرماد في عيون من يراقبون علاقتنا، ليظنوا أنها مجرد علاقة غرامية.
اخترنا مكانًا هادئًا عوضًا عن الظهور العلني، ومع ذلك، كنا نعلم أن الخبر سينتشر كالنار في الهشيم.
فلا أحد تحت الأضواء في الإمبراطورية أكثر مني.
“بالطبع لا.
يسعدني حضور السيدة كاميلا معنا.”
بدا عليها الرضا من ردي السريع.
فهي، كما أخبرتني سابقًا، تعشق المديح.
“عليك أن تتعلّم منها.
هذا ما يُسمى بالأدب الاجتماعي.” تمتمت وهي توبّخ تيسكان، الذي لم ينبس ببنت شفة، واكتفى بإشاحة بصره.
“عشيقتك تتفادى المشكلات بفضلي، وأنت لا تقدر حتى على شكر بسيط؟”
كان إعلان كاسروسيان كالقنبلة في الإمبراطورية. عبارة “ظاهرة ليلية” لم تكن يومًا أنسب من ذلك الوقت.
فور انتشار خبر إقامتي في قصر الإمبراطورة الأرملة، ازدحم المكان بالصحفيين والنبلاء المترقبين.
“ضجيج لا يُحتمل.”
غير أن كاميلا، حين تقدّمت وقالت تلك الكلمة الوحيدة… تفرّق الجميع كما لو دوّى الرعد فوق رؤوسهم.
لم أعلم سبب تدخلها، وإن خمنت أنها ضاقت بالضوضاء، لكن غيابها حينها كان ليضعني في مأزق بالغ.
“على كل حال…” قال تيسكان بعدما ارتشف قليلاً من الشاي وابتسم بلطف
“كنت قادرًا على حمايتها بنفسي.”
“أنت؟” رفعت كاميلا حاجبًا وسخرت.
“ألم يكن من الأجدر اصطحابها إلى مقر إقامتي في العاصمة بدلًا من الدوقية الكبرى؟”
“أهذا عرض للعيش سويًا؟”
هزّ كتفيه.
“ليس كذلك.
مجرد دعوة كضيفة.”
“ومن سيصدّق أنها دعوة ضيافة؟ هل تنوي تحطيم مستقبل هذه السيدة بعلاقة وهمية؟”
اتسعت عيناي من وقع كلماتها.
كيف علمت بالأمر؟
“من السهل استنتاج ذلك حين ترى الصورة كاملة.” ضحكت كاميلا وأشارت بإبهامها إلى تيسكان.
“ثم إن هذا الرجل يفقد رشده إذا أحب.
لو تدخّلتُ في موعده، لأقام الدنيا ولم يقعدها.”
“افتراء.” قال تيسكان بابتسامة وهو ينظر إليّ.
“افتراء؟! كم مرة حذرتك من التسرع في الزواج من إيلوديا؟ وفي كل مرة كنت تصرخ مدافعًا عنها…”
“لا أذكر شيئًا من ذلك.”
حدّقت به كاميلا بعدم تصديق، ثم التفتت إليّ وقالت: “انفصلي عنه.
سأعرّفك على شريك تمثيل أفضل منه.”
“ماذا؟”
“ماذا تعنين بـ’ماذا’؟ قلت انفصلي.
هذا الرجل كارثة تمشي على قدمين.”
“لا ترهقي البارونة.
أليس كافيًا أنكِ تفسدين لقاءً بريئًا لمجرد شعورك بالملل؟”
“أصلاً هذا اللقاء كله تمثيل.”
“وربما يصير التمثيل حقيقة.”
قهقهت كاميلا.
“لا توجد امرأة عاقلة ترتضي علاقة جادة مع رجل خاض غرامًا مستعرًا لا يُنسى.”
رغم أن ملامح تيسكان ظلّت ساكنة، إلا أن قبضته على فنجان الشاي اشتدت حتى برزت مفاصله.
“إن كنت تنوي الزواج مجددًا، فابحث عن امرأة تُطيعك وتتحرك حسب هواك.
لا تكن عائقًا في درب فتاة نقيّة.”
“أشعر منذ زمن أنك لا ترحبين بعلاقتي بالبارونة.”
“صحيح.”
“ولماذا؟”
أدارت كاميلا نظرها إليّ، ثم صوبته نحو الأفق حيث يلوح القصر الإمبراطوري.
“فقط… لا أعلم.
ليست هذه المرة الأولى التي أفتعل فيها أمرًا تافهًا.”
فتح تيسكان فمه وكأنه سيعترض، لكنه اكتفى بإطلاق ضحكة مكتومة، ثم أغلقه من جديد.
يبدو أن ما قالته كان حقيقيًا بالفعل.
—
ساد بيننا صمت ثقيل، لكن من خلال نظرات تيسكان وسلوك كاميلا، أمكنني تبيّن طبيعة العلاقة بينهما؛ يبدو أنها كانت دومًا على هذا النحو، دون أن يضيق أحدهما بالآخر.
أما أنا، فكنت كأرنب صغير عالق بين وحشين، عاجزة عن كسر هذا الجمود المرهق.
“سيدة كاميلا.”
تدخلت خادمتها فجأة، كأنها أنقذتني من دوامة التفكير.
“هناك ضيف وصل.”
“ضيف؟” تساءلت وقد ارتسمت الدهشة على وجهها.
“الضيف الذي حدّدتِ له موعدًا منذ أيام.”
بدت كأنها تذكّرت فجأة، وابتسمت بخبث.
“دعيه يأتي إلى هنا.”
“حسنًا، كما تأمرين.” ثم انسحبت الخادمة.
نظرت كاميلا نحونا، ثم قالت: “نسيت أن لدي موعدًا.”
ظننت أنها تمهّد لرحيلنا، لكنها قالت:
“ما دمتم بلا شغل، لمَ لا تبقيان؟ أنتما تعرفان الضيف جيدًا.”
“من هو؟”
“إيلوديا.”
ما إن ذُكر اسمها، حتى تبدلت ملامح تيسكان كليًا.
اختفت الرقة، وتلاشت ابتسامته.
“لم تمر سوى ساعات على إعلان كاسيان عن العقد مع البارونة ليريبيل، حتى اتصلت بي وطلبت لقاءً.”
“هل وافقتِ لمساعدتها؟”
“ماذا؟” سألت بذهول صادق.
“ألستِ على علاقة طيبة بها؟”
“أنا؟ ومن قال هذا؟ إيلوديا؟” بدا صوتها مشبعًا بالاستغراب.
“سمعت أنها كانت تتردد على مجلسك كثيرًا عندما كانت دوقة كبرى.”
“آه، هكذا قالت؟ بأنها كانت ضيفتي الدائمة بسبب الصداقة؟”
“… أليس هذا صحيحًا؟”
“عقلها مزروع بالورود.
في الواقع، مجرد أن الدوق الأكبر ظنّ أنني شخص سهل الإرضاء يثير اشمئزازي.” ثم وجهت نظرة حادة نحو تيسكان.
“هل أبدو كشخص يمكن كسب وده بسهولة؟ أنا أُسهّل الكراهية، لا المودّة.”
قالتها بفخر، وإن لم أكن متأكدة أن هذا أمر يستحق الاعتزاز.
التعليقات لهذا الفصل " 88"