“ليس بوسع المرء أن يبوح بكل ما في قلبه للطرف الآخر، مهما كانت المبررات.” قالها كاسروسيان بصوت هادئ ونظرة ساكنة وهو يتأملني.
“حتى وإن لم أعد أرغب في خداع البارونة، فلا يمكنني إخبارك بكل ما أخفيته، سواء عن قصد أو دون وعي.
ثمة أمور أعجز عن التلفظ بها.”
توقف لحظة، ثم وضع يده على رأسه.
“لكنني لا أريد أن أكذب عليك.”
أصابعه الطويلة، الرشيقة، امتدت إلى خصلات شعره البني… ثم…
“…!”
تساقط الشعر.
تلاشى اللون البني، كاشفًا عن شعر طويل بلون أحمر ذهبي متوهّج.
شهقت دون وعي، وانفلتت من بين شفتيّ الكلمات: “إنه رائع الجمال.”
رغم أن التغيير اقتصر على لون الشعر، إلا أن وجه كاسروسيان، وقد تحرّر من قناعه، بدا كمن يشعّ بهالة خفية.
ابتسم كاسروسيان.
كانت نفس الابتسامة التي عرفتها، لكنها انسجمت الآن كليًا مع ملامحه المتحرّرة من النظارات والشعر المستعار.
“لهذا السبب كنت تخفيه.” وحين هدأت دهشة اللحظة الأولى، اجتاحتني موجة من الشفقة العميقة.
“حين كنت طفلًا، كانت والدتي تخفيه عني.
وعندما كبرت وأدركت ما يرمز إليه هذا الشعر، بدأت بإخفائه بنفسي.”
شعر أحمر ذهبي… هو رمز الإمبراطور المؤسس، وشارة السلالة الإمبراطورية.
كان من يولد بهذا اللون بين أفراد العائلة المالكة يُعدّ مرشحًا طبيعيًا للعرش.
غير أن مرور الزمن أضعف نقاء الدم، وكثرت الزيجات، فبات نادرًا أن يُولد أحد بشعر كهذا.
ومع تقادم العصور، تفرعت السلالة، وظهر كثيرون خارج الأسرة الحاكمة يحملون هذا اللون، ففقد رمزيته المطلقة، وإن ظلّ في نظر البعض دليلًا ضمنيًا على الامتياز، بل وربما سببًا في تفضيل أحدهم في ترتيب الوراثة.
لكن أن يُولد ابن صانعة الملوك بهذا الشعر؟!
والأسوأ من ذلك… أن ولي العهد الشرعي لا يزال على قيد الحياة!
لم أحتج إلى كثير من التفكير لأفهم لماذا أخفت كاميلا شعر كاسروسيان، ولماذا عاش حياته تحت قناع مستعار.
“إن القدر قاسٍ.”
ضحك كاسروسيان بصوت خافت.
“لكنه جميل بحق.
ويليق بك كثيرًا.”
رغم ما يحمله شعره من دلالة على الخطر، إلا أنه بدا وكأنه صُنع خصيصًا له.
الجمال لم يكمن في شكله فحسب، بل في أنه كشف لي سرًا دفنه طويلًا، سرًا كان يعني له الكثير، ولم يعد يريد أن يخدعني.
“لا يمكن أن يكون جميلًا.” تمتم بها وهو يعبس.
“حين ترتدي شعرًا مستعارًا، لا تعرف طول شعرك الحقيقي، ولا يمكنك أن تطلب من أحد أن يقصه لك.” مرر يده بين خصلاته الطويلة التي انسدلت حتى ما تحت عظام الترقوة.
“لذا أقصه وحدي، بطريقة عشوائية.
ولا ألمسه حتى يطول مجددًا.
لا يمكن أن يبدو جيدًا.”
هل كنت أتوهم؟ شعره بدا فوضويًا فعلًا، بلا ترتيب، ومع ذلك لاقى ملامحه بشكل غريب وساحر.
ارتبك كاسروسيان، وأعاد ارتداء الشعر المستعار.
ورغم طوله وكثافته، اختفى شعره تمامًا تحته، كما لو كان مغطى بسحر خاص.
وهذا منطقي، إذ لم يحدث أبدًا أن رأيت خصلاته الحقيقية من قبل.
“دعني أعتني به.”
توقف فجأة، وقد همّ بالقيام، وحدّق بي بدهشة.
ابتسمت وتابعت: “من الآن فصاعدًا، سأهتم به بنفسي.”
كان أمامنا وقت طويل حتى يتم استخراج جثة التنين والتعامل معها، وخلال تلك الفترة، سأبقى في القصر الإمبراطوري.
لذا، إن أراد، سأساعده.
وإن غادرت لاحقًا، يمكنني العودة خصيصًا من أجله.
“كنت أقص شعر السيدة بريسيلا أيضًا.
لدي خبرة كافية.”
بعد أن كشف لي سرًا بهذه الأهمية، كان أقل ما يمكنني تقديمه.
بل لم يكن ذلك حتى مكافأة، أمام ثقته بي.
“جلالتك؟”
لكن كاسروسيان أدار لي ظهره فجأة، واضعًا يده على فمه، وقد بدا عليه الاضطراب.
“انتظري.”
شعرت بالقلق، وهممت بالنهوض، لكنه مد يده نحوي يمنعني.
“فقط… لحظة.”
استدار بنصف جسده مبتعدًا، لكن أذنيه احمرّتا فجأة، كما لو أن شمس الغروب مرّت عليهما برفق.
—
وقفت في مكاني، أسترجع ما حدث قبل أيام.
رغم أنه قال إنها مجرد لحظة، إلا أن كاسروسيان ظل واقفًا لوقت طويل، متوترًا، يعبث بأذنيه المتورّدتين، ثم قطع اللحظة بقوله إن علينا تأجيل الحديث، واصطحبني إلى قصر الإمبراطورة الوالدة.
لم يعد منشغلًا بجراحي. بدا وكأنه يهرب من ارتباكه.
لكن ما طمأنني أنه لم يبدِ أي قلق حيال إصابتي.
الأعجب من ذلك، أن الألم قد اختفى كليًا.
مشيت بثبات إلى القصر، وكأن شيئًا لم يحدث.
ربما لئلا يشعرني بالحرج من قلقه الزائد.
إنه وسيم فعلًا.
استحضرت ملامحه، وشعره الأحمر الذهبي.
لطالما ظننت أنه قد يكون جذابًا، لكن…
حتى مع النظارات السميكة، وتسريحته العادية، وملابسه التي توحي بالهوس بالنظافة أو الترتيب، كان هناك شيء غامض فيه، يأسر القلب.
طويل القامة حتى إنني، رغم أنني أطول من أغلب الرجال، كنت أرفع رأسي لأنظر إليه.
عنق مستقيم، رأس صغير، كتفان عريضان، فك قوي يبرز من تحت النظارات، يدان كبيرتان بأوردة واضحة وأصابع طويلة خشنة… حتى يديه كانتا وسيمتين.
أكثر بكثير مما توقعت…
“… سيدتي!”
صوت مفاجئ أخرجني من أفكاري، فالتزمت الصمت وقد أدركت أنني كنت أحدّق في الفراغ.
“كل شيء جاهز، سيدتي ليريبيل.”
استدرت، لأرى رونا واقفة أمامي، تعقد حاجبيها بامتعاض خفيف.
“فيما كنتِ شاردة الذهن إلى هذا الحد؟ ناديتكِ مرارًا ولم تجيبي!”
“لا شيء، حقًا.”
“ها قد عدنا لنفس الأسطوانة! ألم أطلب منكِ أن تتحدثي إليَّ بعفوية؟”
“آه…”
كنت دائمًا أحرص على مخاطبة رونا بأسلوبٍ مهذب.
كنا نعمل سويًا تحت إمرة بريسيلا، ولم أرد أن أبدو متعالية لمجرد أنني من النبلاء.
اعتدت ذلك، لكن عند لقائنا مجددًا، تفوهت بكلمات غير رسمية بفعل الارتباك، والفرح، وربما الذنب.
ومنذ تلك اللحظة، أصرت رونا على أن أخاطبها ببساطة، بما يليق بموقعي الجديد.
“الفستان أصبح جاهزًا.”
“شكرًا لكِ.
لم يكن عليكِ…”
“كفى! لا تقولي هذا مجددًا!”
ضحكت بخفة من توبيخها الحنون.
عندما سألت كاميلا إن كانت تمانع أن تبقى رونا معي، رمقتني بنظرة ساخرة، كأنها تقول:
“وهل تحتاجين إذني؟” ثم تركت لي القرار.
وهكذا، عادت رونا للعيش معي في قصر الإمبراطورة الوالدة، وشرعت في رعاية شؤوني كما في السابق.
رغم وجود خادمات أخريات، كانت تصرّ على القيام بكل شيء بنفسها، وتقول إنها اعتادت خدمتي وتشعر بالراحة في ذلك.
كان الأمر يثقل قلبي، لكنني لم أجرؤ على إجبارها على ما لا تريد، حتى وإن بدا ذلك أفضل لها.
حينها فقط، فهمت شعور كاسروسيان عندما رفضت رده للجميل.
“سيدتي ليريبيل، لقد حققتِ الكثير فعلًا.
ها أنتِ ترتدين أبهى الثياب، وتقيمين كضيفة في قصر الإمبراطورة الوالدة.”
“كل الفضل يعود للماركيز إردان.”
ضحكت رونا وهزّت كتفيها بغير تصديق عند سماع اسمه.
نظرت إليها مليًا، ثم قلت: “السيدة مايكونري عادت.”
“آه، نعم.
هذا صحيح.”
“وعادت كخادمة لدى إيلوديا.”
“نعم، تمامًا.”
نظرت إليها مجددًا، وقد بدا أنها تتظاهر بالجهل، ثم فتحت فمي لأتحدث من جديد…
التعليقات لهذا الفصل " 86"