لم يكن كاسروسيان الوحيد ذا العينين الحمراوين، لكنّ تراكم الأحداث الماضية رسّخ في ذهني اليقين، دون موضعٍ للشك.
“إن كنت ترتدي النظارات لإخفاء لون عينيك، فقد يكون من الأفضل أن تفكّر بوسيلةٍ أخرى.”
ضحك كاسروسيان بخفة، وكأن ذكرى بعيدة راودته.
“ليست لهذا السبب.
معظم الناس يدركون أن عينيّ حمراوان.
صحيح أنني بدأت أرتديها عمدًا بعد وصول البارونة، لكن…”
“هل لأن جلالتكم لم ترغبوا بكشف أنكم من أنقذني شخصيًا، وأردتم إخفاء هويتكم؟”
“نعم.”
“وهل كان هناك سبب بعينه لإخفائه عني؟”
لم أُظهر له أنني عرفت حقيقته منذ البداية، وكل ذلك بسبب هذا السؤال.
تساءلت: هل لديه ما يدعوه لإخفاء الأمر؟ وإن صحّ ذلك، لعلّ التظاهر بالجهل كان الخيار الأذكى.
“لأن الأمر… محرج.”
نطق حينها بكلمةٍ لم أكن لأتوقعها قط.
وبينما كنت مشدوهة من فحواها، حكّ كاسروسيان مؤخرة رأسه وتابع:
“في البداية، قررت أن أذهب بنفسي لتحذيرك من الخطر الذي يُشكّله إردان، بدلًا من إرسال غيري.”
“ف…فهمت .” تمتمتُ بصوتٍ خافت.
“ثم، حين رأيت الخطر يحفّ بك، انتهزتُ الفرصة لإنقاذك، ونسّقت بعض الترتيبات التي تجبرك على اللجوء إلى العائلة الإمبراطورية.”
بدأ يشرح لي الآليات النفسية التي تعمّد خلقها، لإجبار البارونة على طلب العون من القصر.
لم يكن مضطرًا لأن يشرح، لكنه قال كل شيء، وعجز حتى عن أن يلتقي بعينيّ.
“لم أكن أرغب بإخفاء الحقيقة.
كنت أعتزم إخبارك والاعتذار، لكنني… لم أستطع قولها لأن…”
نظر إلى الفراغ لبرهة، ثم قطّب حاجبيه بانزعاج ظاهر.
“لأني شعرت أنني سأبدو ككلبٍ يلهث بأمرٍ من بريسيلا.”
“بريسيلا…”
“هي من طلبت مني حمايتك.”
تذكّرت كلماته في لقائنا الأول.
ضحكة خفيفة كادت تفلت مني، فبادرت بكتمها بين شفتيّ.
كم هو لطيف.
أخفى هويته خشية أن يُساء فهمه.
تمامًا كما أخفيت أنا معرفتي، لأنني شعرت بالإحراج من رؤيته في هذا الموضع.
هذا الجانب غير المتوقع من رجلٍ اعتدت عليه ناضجًا ومتماسكًا، جعل قلبي يلين.
لا يمكنني أن أظل منزعجة بعد هذا.
في الحقيقة، كنت منزعجة قليلًا، لكن تصرّفه الطفولي البريء بدّد كل شعورٍ سلبي.
إضافةً إلى ذلك، كنت في حالة من الهلع.
لا شك أن ما فعله كان شاقًا ومرهقًا، وهو يشرح لي تفاصيل مؤلمة بدقة.
وقتها، كنّا غريبَين تمامًا عن بعضنا.
لذا، كنت ممتنة لأنه لم يتجاهل طلب بريسيلا وأنقذني.
وإن كنت أعلم ذلك عقليًا، فإن ما آلمني حقًا… هو أننا لم نعد غرباء.
ارتسمت ابتسامة خافتة على شفتي.
“ذهبت إلى أراضي بيتترول مدفوعًا بإحساسٍ بالذنب، لإخفائي الحقيقة عنكِ.
ومع ذلك، لا زلت أندم لأنني لم أُخبرك، بل أرسلتك إلى هناك.”
“فهمت.”
“لكن بما أن البارونة لم تتعرّف عليّ، تساءلت عمّا إذا كان الكشف عن الحقيقة ذا جدوى.
لو فعلتُ، لنظرتِ إليّ بعين الشك، ولما تم التعاقد بسلاسة.
لذلك، فضّلت الكتمان.”
خفض كاسروسيان نظره إليّ بعدما كان شاخصًا في الفراغ.
“ما قالته البارونة صحيح.
أنا رجل لا يتورّع عن استخدام الخداع، ولا يتردّد في استغلال الآخرين.
دنيء إلى حد أنني فضّلت شعورًا شخصيًا بالخجل، على أن أتحمّل عبء الذنب والعار.”
“لم أذكر ذلك لأعاتب جلالتك.
في الحقيقة، لم أشعر يومًا أنني خُدعت.
ولا أعتقد أنكم شخصٌ دنيء.”
تمامًا كما تأذّيتُ من أفعالٍ يمكنني تبريرها عقلًا، تأذّى هو من ذات الأمر.
ولو اعتبرني غريبة تمامًا، لما أحسّ بالذنب أو الحرج. كان سيمحو وجودي من ذاكرته ببساطة.
لكن المشكلة لم تنشأ إلا حين اقتربنا من بعضنا البعض.
“أنا فقط ممتنة.” اتسعت ابتسامتي بهدوء.
في المقابل، علت شفتيه ابتسامة رقيقة.
لم ينبس بكلمة، لكن ابتسامته تلك كانت شكرًا صامتًا.
“لكن الآن، بعد انكشاف كل شيء، لم يعد ثمة داعٍ لأن تشكرني البارونة.”
“هاه؟ ولمَ ذلك؟”
“لأنكِ تعلمين الآن أنني فعلت ما فعلت، بتوصيةٍ من بريسيلا.”
بريسيلا… تغيّرت ملامحي عند سماع اسمها.
ما الذي كانت ترجوه؟ وما الذي دفعها للتصرف بهذا الشكل؟
“هل تعرف لماذا رغبت في مساعدتي؟”
“لا.” أجاب باقتضاب.
“لم أسألها عن السبب.
كان الأمر مزعجًا…” ثم سكت لحظة، ونظر إليّ بتردّد
. “…بل لم أظنّه مهمًا آنذاك…”
ندم على أنه لم يسأل عن أمرٍ يخصّني، لمجرد أنه شعر بالانزعاج حينها.
“هذا منطقي.
آنذاك لم نكن نعرف بعضنا بعد.”
عند سماعه كلماتي، تنفّس الصعداء.
“هل نجلس قليلًا؟” قال، مشيرًا إلى مكانٍ قريب.
كان هناك عريش فخم، تتدلّى عليه الزهور والكروم.
“لاحظتُ أن قدميك تؤلمانك، وكنت أنوي الحديث عن ذلك، لكن سلسلة المفاجآت أنستني.”
كيف عرف أن قدمي تؤلمانني؟
كنت أرتدي حذاءً جديدًا، بكعبٍ عالٍ لم أعتد عليه، فشعرت بالألم منذ دخولنا الحديقة.
ومع ذلك، لم أظهر أي علامة انزعاج، لأن هذه اللحظة معه كانت ثمينة.
هل عرف منذ البداية، وقادني إلى العريش خصيصًا لذلك؟
مدّ يده إليّ.
“هل نتابع؟”
حلّ الغروب، وبدا الليل يزحف ببطء.
السير في الظلام بقدمين موجوعتين قد يجعلني أتعثر.
لذا، وعلى غير عادته، مدّ يده ليصطحبني.
“نعم.”
وضعتُ يدي على يده بهدوء.
وبرغم الشعور بالكهرباء الذي سرى في أطرافي حين لامسته، وبرغم أن كل تركيزي كان على موضع التلامس…
“…”
النسيم الذي لفّني في خطواتي لم يحرّك ملابسي فحسب، بل حرّك شيئًا عميقًا بداخلي أيضًا.
“تفضلي بالجلوس.” قال وهو يحرّر يدي، ثم أخرج من جيبه منديلًا، فرشه بعناية على المقعد.
“شكرًا لك.”
لسببٍ ما، لم أشعر أن اليد التي لامسته قبل قليل كانت تخصّني فعلًا.
قبضتُ عليها بيدي الأخرى، وجلست.
“جلالتك؟”
جثا على ركبةٍ واحدة أمامي، وناديته بدهشة.
“لحظة واحدة فقط.”
ببساطة، رفع قدمي، ونزع الحذاء.
حتى قدمي، لم أشعر أنها لي.
بذلت جهدًا كي لا تنكمش أصابعي من التوتر.
“لقد تورّمت.” تمتم وهو ينظر إلى قدمي الحافيتين.
“آه.”
عندها، انبعث نورٌ ساطع شقّ الظلام.
المصابيح السحرية اشتعلت دفعة واحدة، وأضاءت الحد الفاصل بين الشفق والليل.
بدا المشهد كأنه بوابة لعالمٍ ساحر، لا يسكنه سوانا.
“ارتداء الحذاء مجددًا والسير به سيؤلمك كثيرًا.”
وبينما كنت أُحدّق في ذلك المشهد الساحر، أعادني صوته إلى الواقع.
نظرت نحوه، كان كل تركيزه منصبًا على قدميّ، وكأنّه لم يلحظ الضوء من حولنا.
“جلالتك.”
“مم؟” رفع رأسه وهو ما زال يقطّب حاجبيه.
“هل قصصتَ شعرك؟”
“…ماذا؟”
“حين رأيتك آنذاك، بدا شعرك أطول ويصل ما دون كتفيك.”
كان يجلس وظهره إلى الضوء، ما جعله يبدو كظلّ.
صورته اختلطت في ذهني بذكراه يوم لقائنا الأول.
كان شعره أطول قليلًا، وهذا التفصيل رغم بساطته، ترك في نفسي أثرًا لا يُمحى، رغم ما كنّا فيه من فوضى، وغضبي لاكتشاف أن إردان هو الفاعل.
“لسنا وحدنا، بل البارونة وكثيرون غيرها يعيشون بأسرارهم، صغيرة كانت أو كبيرة.”
قلت ذلك بعفوية، لكن وعلى غير المتوقع،
بدأ كاسروسيان يتحدث فجأة…
التعليقات لهذا الفصل " 85"