إدارة النبلاء ومنعهم من تجاوز حدودهم، والحفاظ على استقرار البلاد من جميع جوانبها، رغم ما يعتريه من ضعف وعجز وسذاجة تأثر، كانت مهمة شاقة ومرهقة على كاهل كاسروسيان حتى في أكثر الأيام هدوءًا.
ولأن الحال على هذا المنوال دومًا، فقد كان هذا اليوم أقسى من سابقيه، إذ بلغ به الإعياء مبلغًا عظيمًا.
وما إن أنهى الاجتماع بشق الأنفس، حتى ألغى جميع مواعيده الباقية واتجه صوب الحديقة.
“على الأقل، بفضل والدتي، لم أُجبر على التعامل مع إردان.”
ضحك كاسروسيان بسخرية مريرة وهو يسترجع ذلك اللقاء المرهق؛ فلولا تدخل كاميلا في حينه، لكان قد ابتُلي بما لا يُحتمل من ترّهات إردان، الأمر الذي كان كفيلًا بأن يُثقل هذا اليوم الطويل بمزيد من العناء.
“…”
تلاشت ابتسامته وهو يحدّق في امتداد الحديقة أمامه، متأمّلًا أن يحمل هذا المشهد الفسيح بصيصًا من التغيير، غير أن السأم الذي استوطنه لم يغادر موضعه بسهولة.
فهذا المكان لم يكن ميدانًا فسيحًا مفتوح الأفق، بل رقعة مغلقة مصطنعة من كل الجهات.
وبينما يسير فيها، شعر كأنه سمكة تسبح داخل حوض زجاجي فاخر، مهما تلوّت وتحركت، ظلت الجدران الشفافة تحدّها، وتمنعها من النفاذ.
لقد أُحكم عليه طوق زجاجي لا مهرب منه.
“آه…”
وفي تلك اللحظة تقريبًا، سمع وقع خطوات تقترب من بعيد.
“تبًا…” تمتم بضيق، عابسًا وهو يمرّر أصابعه بين خصلات شعره.
بدا أن أحدهم جاء يطلبه رغم رغبته الصريحة في الانفراد بنفسه، ما يعني أن أمرًا ما قد جدّ.
وكان يتساءل بمرارة: لماذا اليوم بالذات؟
تجاهل الخطوات القادمة.
ومع أنه كان يعلم أنه سيضطر للإصغاء عما قريب، إلا أنه أراد تأجيل ذلك قدر استطاعته.
“جلالتك.”
توقفت الخطى، وتناهى إلى سمعه صوتها الرقيق.
“…”
استدار على مضض، ليجد ليريبيل واقفة هناك، تغمرها أشعة المغيب القرمزية.
“لقد عدت.” قالتها بابتسامة وادعة، ما إن التقت نظراتهما.
هل كان ضوء الشمس الغاربة هو من ألبسها هالة ذهبية؟ أم أن فستانها الأخضر العميق قد زاد من فتنتها؟ لقد بدت في تلك اللحظة كوردة نادرة في ذروة تفتّحها، بجمالها الأخاذ وشعرها القرمزي المتلألئ، حتى أنها بدت فاتنة إلى حدٍ خطِر.
تيك… تاك… تيك… تاك…
الزمن، الذي بدا ساكنًا، بدأ فجأة في الجريان، بل وكأن وتيرته تسارعت لمجرد رؤيته لها.
وكأن الوقت الذي أبى الانسياب، قد عاد فجأة ليتدفّق من جديد.
“عيناك حمراوان.”
كان يحدّق بها بصمت حين قالتها، فرفع يده إلى عينيه بلا وعي، ولم يدرك إلا حينها أنه لا يرتدي نظّارته التي اعتاد أن يخفي خلفها ملامحه.
لقد نزعها في لحظة ضيق من عبء أيامه المتراكمة.
—
حين نطقت بتلك الملاحظة، بدا عليه الارتباك، وراح يفتش جيوبه بحثًا عن النظارة، لكن يديه لم تلمسا شيئًا.
كان واضحًا أنه لم يُحضِرها أصلًا.
“هل تودين ان نتمشى قليلًا؟” سألها وهو يمرّر أصابعه المرتبكة على طرف حاجبه.
“نعم.”
سارا معًا عبر الحديقة، دون أن ينبس أحدهما بكلمة لوقت طويل.
لكن الصمت بينهما لم يكن ثقيلًا أو موحشًا؛ بل كان هادئًا، عذبًا.
السير بجانبه وسط الحديقة الذهبية المغمورة بألوان الغروب، بدّد شيئًا من توتر اليوم المتعب.
وكلما اتّسع الأفق في السماء، اتّسع معه السكون داخلها.
“البارونة ستقيم في قصر الإمبراطورة الأرملة.”
كان هذا أول ما نطق به كاسروسيان بعد برهة صمت.
“قررت والدتي أن تتولّى أمر البارونة بنفسها، لذا سيكون من الأفضل أن تبقي ضيفتها.”
“أجل، فهمت.”
“ألن تسألي عن التفاصيل؟” قالها بنبرة مترددة، فأجابته بابتسامة هادئة:
“إن كانت هذه إرادة جلالتكم، فسأتبعها.”
كاسروسيان لم يكن يومًا ممن يؤذونها، وإن اتخذ قرارًا، فلا حاجة لأن تشكّ فيه.
“شكرًا لك.”
“هذه مجرّد نزوة من والدتي، لا داعي لشكري.”
“قد تكون كذلك، لكنني ممتنة لأن جلالتكم بحثتم عن رونا أيضًا.”
أجاب بخفة: “أمر لا يستحق، أردت فقط أن أتذوق الشاي الذي قيل إنه لا يُفوّت.” وكأنه يحاول التهوين من الأمر، وربما كان هذا كل ما في الأمر.
ومع ذلك، كانت ممتنة لأنه تذكّر أمرًا بسيطًا مثل ذلك.
“يبدو أن لي دين شكر كبير لجلالتك.”
“حقًا؟ لا أراه كذلك.
مجرد مصالح متبادلة، لا أكثر.”
“بل أنا ممتنة.” استعادت في ذاكرتها كل لحظة جمعته بها منذ لقائهما الأول.
“فقد أنقذني جلالتك مرتين.”
توقّف فجأة عن المشي، واتسعت عيناه الحمراوان بدهشة خالصة.
“كنتِ تعلمين؟” بدت ملامحه وصوته صادقين في اندهاشهما.
أومأت برأسها ببطء.
“هل اكتشفتِ ذلك اليوم؟ أم…”
“كنت شبه واثقة منذ مدة، لكن الشك بدأ يتسلل إليّ منذ لقائنا الأول.”
ارتبك كاسروسيان تمامًا، لا يدري إلى أين يوجّه نظره أو ماذا يقول.
“صوت الرجل الغامض الذي أنقذني فجرًا، والرجل الذي حضر مع اللورد لويس، وصوت جلالتكم—جميعها كانت متشابهة.”
“…!”
“لكن نبرة صوت جلالتك كانت أرفع قليلًا، وأسلوبكم مختلف كليًا، لذا لم أكن متيقنة تمامًا.”
أولئك الرجال كان صوتهم منخفضًا، أشبه بزئير خافت لوحش يترصّد في الظلمة، وكان أسلوبهم آمِرًا، يفيض بالقوة.
أما كاسروسيان، فصوته رقيق، رسمي، تنبع منه الهيبة والرقي.
“ظننت أنكِ لن تكتشفي أبدًا.” قالها مبتسمًا بخجل، يحاول عبثًا إخفاء ارتباكه.
“كانت مجرد حدس، لكني لم أستطع تجاهله.”
مرّتان تنكّر فيهما كاسروسيان وأنقذها، وفي كل مرة كانت في خطر شديد.
آنذاك، وهي غارقة في خوفها، ظنت أنها تتوهم.
فكيف لها أن تصدّق أن شخصًا بمنزلة الإمبراطور يتدخل بنفسه، مرتين، من أجلها؟
“لكنني كنت متأكدة أن الرجلين شخص واحد، وبدأت أعتقد أن جلالتك من أرسلهما لمساعدتي.”
“ولهذا لم تَشُكِّي بي حين ظهرتُ فجأة واقترحتُ عليكِ عرضًا غريبًا؟”
إن كان هو من أمر بحمايتها منذ عودة إردان، وإن كان من سعى لمنحها أراضي بيتيرول، فكيف لا تضع ثقتها فيه؟
“بصراحة، ساورني بعض الشك، دون وعي، لكنني بذلت جهدًا كي لا أظلم جلالتك.”
لكنها، وقد خُذلت سابقًا، أصبحت ترتاب بالجميع، حتى به، فحاولت إخفاء ذلك بالاحترام والمبالغة في الامتنان، لعلها تسكت شكوكها.
“متى تيقّنتِ أنني هو؟”
“بعد أيام قليلة من خدمتي لكم.”
تغيرت ملامحه، كأنما راح يتفحّص تلك الفترة وما بدر منه فيها.
“النظارات لا تُخفي العيون بالكامل.” أشارت بأصبعها نحو عينيه، ثم رفعت يدها قليلًا.
“مهما كانت عدساتها قاتمة، تبقى هناك فجوة صغيرة.”
“…”
“وأحيانًا، تخلعها.”
ظهر عليه التوتر فورًا، وكأن فكرة خلعها بحضورها لم تخطر بباله.
“أفعل ذلك؟”
أومأت برأسها.
كما توقعت، كان يفعلها فقط حين يظن أنها ليست حاضرة.
ومنذ أن لاحظ وجودها، لم يفعلها مجددًا.
“حقًا، لم أكن أعلم.” قالها بصوت خافت، كمن يحدّث نفسه.
“حين رأيتُ عينيك الحمراوين، تأكدت.
ففي تلك الليلة المظلمة، وسط الفوضى، لم أعد أذكر شيئًا بوضوح، سوى تلك العينين… كانت تهددني بقدر ما كانت تُبهرني بجمالها.”
التعليقات لهذا الفصل " 84"