[المحادثة التي تدور حاليا بين الماركيز والامبراطور عبر البلورة السحرية.]
” حين جاء الماركيز لرؤيتي، كانت هي أيضًا حاضرة في الصالون.”
“وماذا قلتَ له؟”
تساءل إردان بدهشة، بينما ارتسمت على شفتي كاسروسيان ابتسامة ساخرة خفيفة.
“لكن لماذا لم يتعرّف عليها المركيز؟”
ساد الصمت لوهلة، ثم قال كاسروسيان بنبرة لم تخلُ من التوبيخ:
“لو أنك أدركت هويتها في تلك اللحظة، لكان بوسعي التدخل واتخاذ إجراء ما.
أما الآن، فقد فات الأوان.”
عضّ إردان شفته السفلى بقوة، محاولًا استرجاع شتات ذاكرته… عبثًا.
“أنا آسف.
صدقني، بذلت قصارى جهدي لمساعدة الماركيز.
لم أتوقّع قط أن تتدخل والدتي.
وحتى لو كنت أعلم، لما استطعت الوقوف في وجهها.”
عاد إردان إلى الصمت، عاجزًا عن قول شيء.
“إن كان لديك أي اعتراض أو شكوى، فلتوجّهها إلى والدتي.
أنا لا سلطة لي في هذا، ولا قوة.
والآن، دعني وشأني.”
“اللعنة!”
انقطع الاتصال، ولم يتمالك إردان نفسه، فصرخ غاضبًا، ثم رمى الكرة البلورية أرضًا.
ومع أن البلورة تحطّمت إلى شظايا، لم يخمد ذلك غضبه، بل راح يدوسها بقدميه بوحشية.
لم يعد هناك ما يمكن فعله.
كاميلا هي من قررت التدخل.
كان الجميع يراقب كاميلا بصمت وهي تحيط الأمير برعايتها، لا حبًا بها أو إعجابًا، بل خوفًا منها.
فقد كانت كاميلا، صانعة الملوك، امرأة لا تعرف للرحمة سبيلًا، قاسية لا تتردد في استخدام الدسائس والوسائل الوضيعة، ولم تتوانَ قط عن تلطيخ يديها بالدماء لأجل أهدافها.
وإن استعادت مكانتها، فلن تتورع عن توجيه تلك القسوة عينها نحوهم.
ولهذا، كانوا يخشون عودتها.
ولهذا السبب بالذات، لم يعترض أحد على جلوس كاسروسيان على العرش، رغم إدراكهم أنه لا يملك الكفاءة.
لقد رأوا في خموله أهون الشرّين، مقارنة ببطش كاميلا.
وكان إردان يشاركهم الرأي ذاته. لم يكن راغبًا بالدخول في صراع معها.
“ما الذي علي فعله الآن…؟”
راح يدلك مؤخرة عنقه بقسوة، غارقًا في دوامة من التفكير.
هل أتنازل عن أرض بيترول دون مقاومة؟
لو طالب بها، وانتهى الأمر إلى صدام مع ليريبل، ثم انكشف أنه حاول قتلها، فكيف ستكون ردة فعل كاميلا، وهي الآن تدعم ليريبل؟
رغم أن ليريبل لم تشر إلى محاولة اغتيالها، إلا أن الصمت بدا له الخيار الأذكى الآن.
ربما… ربما لم تعلم حتى بمحاولتي قتلها.
من الأفضل أن أظل صامتًا.
ومع ذلك، لم يستطع إردان كبح غضبه.
اللعنة… سيخسر أمام تيسكان مجددًا.
فقدان جثة التنين التي كانت من حقه كان مرارة كافية، أما الآن، إن تزوج تيسكان بليريبل، فسوف يخسرها هي أيضًا، إلى جانب الأرض والثروة.
“إردان.”
جاءه الصوت مألوفًا.
“متى دخلتِ؟”
استدار ليرى إلوديا واقفة عند الباب، تعصر يديها بقلق ظاهر.
“حين كنتَ تتحدث مع جلالته.”
مرر إردان يده في شعره بتعب ظاهر.
“عليكِ أن تتعلمي آداب الدخول.”
انكمشت إلوديا قليلًا، ثم رفعت عينيها بتردد.
“طرقت الباب مرات عدّة… لكن لم يجبني أحد.”
“وماذا تريدين؟”
قالها بنبرة حادة نافدة الصبر، فقاطعها قبل أن تتابع.
ترددت إلوديا، لكنها ما لبثت أن استعادت عزيمتها وقالت:
“ليريبل… يبدو أنها نجحت في كسب مودة الإمبراطورة الأرملة أيضًا، أليس كذلك؟”
لم يردّ إردان، فتابعت:
“كاميلا لم تكن يومًا امرأة يسهل خداعها أو التلاعب بها.
بل الأرجح أنها اكتشفت أسرار بيترول واقتربت من ليريبل لاستغلالها.”
“وما الذي تحاولين قوله؟”
سألها بنفاد صبر، لا يزال متأثرًا بسخطه تجاه تيسكان.
“أظنني أستطيع إقناع الإمبراطورة الأرملة.”
رفع إردان عينيه نحوها بشك.
“أنتِ؟”
هزّت رأسها بثقة بعد لحظة صمت.
“لطالما أبدت لي مودة خاصة.
استضافتني في قصرها أكثر من مرة.”
صمت إردان يتأمل، وهي تتابع:
“وفي كل مرة، كانت تحاول منحي أشياء ثمينة.”
قطّب حاجبيه، فصورة كاميلا في ذهنه كانت تناقض تمامًا هذه التصرفات.
“تواصلنا لفترة، لكن… منذ بدأت علاقتي بك، قلت زياراتي…”
راح إردان يتفكر.
كاميلا ليست ممن يضحون بالمصالح لأجل العواطف.
بل لم يعتقد أصلًا أن لها قلبًا ينبض.
ولكن، إن كانت إلوديا صادقة… فربما، فقط ربما، تكنّ لها مشاعر ما.
“حسنًا.”
أبعد يده عن ذقنه وقال:
“جرّبي.”
حتى لو كانت تخادعه، فما من ضرر في المحاولة، وهو في وضعٍ كهذا.
“أعتمد عليكِ.”
تلألأت عيناها بالأمل.
“نعم! سأذهب إليها صباح الغد!”
انبثق في قلبها رجاء جديد.
يجب أن أنجح.
سأنجح.
كانت ما تزال تحمل في صدرها غصة من إهانة ليريبل، وتجاهل إردان لها، لكنها الآن مصمّمة على أن تساعده.
فهي تعرف تمامًا من هو العدو الحقيقي: ليريبل.
تلك المرأة التي كان يُفترض أن تكون جثة هامدة، عادت، وبعثرت توازن إردان، وسرقت منه الكثير.
نعم، إن اختفت، فكل شيء سيعود كما كان.
لكن… كيف نجت؟
يا لها من محظوظة.
لم تكتفِ بالنجاة، بل ستحصد ثروة هائلة!
تجهّمت إلوديا وهي تغادر الغرفة.
في أعماقها، شعرت أن مقولة “من حفر حفرة لأخيه…” لا تنطبق على ليريبل.
هل كانت تعلم بأمر الثروة في بيترول؟ هل تلاعبت بإردان عمدًا لتحصل على الأرض؟
وضعت يديها على فمها فجأة، وقد أصابها الذهول.
أجل… إنها قادرة على ذلك.
إنها مخادعة بما يكفي لتفعلها.
مسكين إردان… لا يدرك أنه دمية في يدها، عاجز تمامًا.
لكن حظها قد نفد.
الآن، وقد أصبحت تحت جناح كاميلا، فإن الأخيرة ستنقلب عليها حتمًا حين تسمع ما ستقوله لها.
ابتسمت إلوديا برضا.
ولإعادة إردان إلى ما كان عليه، لا بد أولًا من التخلص من ليريبل.
أما العتاب على إهماله لها… فذلك سيأتي لاحقًا، حين تهدأ العاصفة… وربما، في الفراش.
ثم شرعت إلوديا بالتواصل مع القصر الإمبراطوري، واختيار فستان يليق بالمهمّة المنتظرة.
—
بدأت أشعة الشمس الذهبية تتسلل رويدًا بين أوراق الأشجار الخضراء.
كان المغيب قد حلّ.
يسير كاسروسيان ببطء، متأرجحًا بين صفاء الضوء وغموض الظلال القادمة.
أخيرًا، انتهى هذا اليوم.
تنهد بعمق.
كان هذا اليوم طويلًا بشكل غير اعتيادي.
مهما نظر إلى الساعة، بدت عقاربها تسير مترنحة كأنها مخمورة.
“كم أنا مرهق…”
تمتم كاسروسيان مجددًا، مطلقًا تنهيدة ثقيلة.
شعر بإرهاق غير مألوف، وكأن أعباء العالم بأسره قد أثقلت كاهله.
ورغم ذلك، حاول التماسك واستكمال جدوله الحافل، لكنه خرج من الاجتماعات منهكًا تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 83"