بناءً على الطريقة التي ظلّ فيها يفرك أسفل بطنه، كان من الواضح أنّ ألمًا شديدًا في معدته يعذّبه، ألمٌ كانت إيلوديا هي من أشعل جذوته.
ربما قدّمت له بعض العزاء، ولو مؤقتًا، يهدّئ من نيرانه.
في نهاية الأمر، لم يحضر تيسكان للقاء إلا بناءً على اقتراحي، وخلال ذلك اللقاء، سنحت له فرصة لأن يفرغ ما أثقل صدره من غضب تجاهها.
ومن الممكن أن يكون هذا التفريغ قد ساهم في تحسُّن حالته.
ولعلّ لهذا السبب كان يبتسم الآن بذلك النور المشرق الذي يتلألأ على وجهه.
نعم… لا شكّ أنّ هذا هو السبب.
همست لنفسي بذلك، أحاول تهدئة قلبي الذي بدأ يخفق بفوضى مؤلمة، متوسّلةً إليه أن يكفّ عن توهّجه، فالابتسامة تلك لم تكن موجّهة لي.
في تلك اللحظة، كنّا قد وصلنا إلى العاصمة عبر بوابة النقل الآني في لمح البصر.
وما إن هممتُ باعتلاء العربة للانطلاق نحو القصر الإمبراطوري، حتى ناداني صوتٌ مألوف، يحمل من الشوق والحنين ما يفوق الاحتمال:
“سيدة ليريبيل…؟”
أخفضت قدمي التي كنت قد رفعتها، واستدرت نحو مصدر الصوت. “رونا؟”
كانت واقفة هناك، تحمل حقيبة سفر صغيرة، بشعرها البني الداكن المعقود إلى جانبي وجهها، وعينيها الواسعتين المتّسعتين بالدهشة.
“سيدة ليريبيل!”
فاضت عيناها بالدموع، فألقت بحقيبتها وهرعت إليّ، تعانقني بعنفٍ شفيف.
“هُوووااا.”
لم أوجّه لها أيّ سؤالٍ بشأن وجودها هنا، بل بادلتها العناق بكلّ ما في قلبي من حنان واشتياق.
“ظننتُ أنكِ قد متِّ.
هووو.
كنتُ واثقة من ذلك…”
“أنا آسفة… كان ينبغي أن أتواصل معكِ في وقتٍ أبكر…”
“هُووو.
لا بأس… هُووف.”
“أنا آسفة جدًا، رونا… سامحيني.”
لم أكن أجرؤ على التواصل معها، إذ كنت أخشى أن يُفضح أمري.
كنت أعلم أن ذلك سيؤلمها، ومع ذلك تركتها في ظلمة الغياب.
ظننتُ، خطأً، أن إخباره لها لاحقًا سيكون كافيًا، وأنّها ستغفر لي لمجرد أنني ما زلت على قيد الحياة.
فهي من أولئك الذين لا يلومون، بل يثقون في قراراتي.
ومع ذلك، ظلّ تأنيب الضمير ينهش قلبي.
وعندها فقط، فهمت كيف كان يشعر هو.
للمرة الأولى، شعرتُ بصدقٍ بما عاناه كاسروسيان من عذاب الذنب حين خدعني.
وفيما كنتُ أعانق رونا وسط الطريق لزمنٍ بدا طويلًا، ظلّ تيسكان واقفًا صامتًا إلى جانبنا.
“جلالته طلب مني معروفًا.”
تحدّث بهدوء بعد أن بدأت شهقات رونا تخفّ تدريجيًا.
“طلب مني أن أحضر خادمة تُدعى رونا من منطقة الماركيز، حينما كنتُ برفقة البارونة.”
“…!”
حدّقت إليه بدهشةٍ تامة.
“لكنّي سمعتُ أنها قد طُردت بالفعل.
وبعد بحثٍ بسيط، اكتشفتُ أنّها في العاصمة، فاستخدمتُ اسم البارونة لأطلب منها أن تنتظر هنا.”
عندها فقط اتّضحت أمامي أسباب وجود رونا.
لم أكن أعلم لماذا طُردت أو كيف وصلت إلى العاصمة، ولكن…
“جلالته…” همستُ، وعيناي تحدّقان في خصلات شعرها البني الداكن في حضني.
“قال إنّ خادمة تُدعى رونا تُجيد تحضير الشاي بشكل مذهل، وإنّه لو سنحت له الفرصة، يرغب في ارتشاف فنجانٍ من صنعها.”
لسع الدمع عينيّ عند سماع كلمات تيسكان.
“وأضاف: إن سألتِ البارونة عن السبب، فليكن هذا هو الجواب.”
أخفضتُ رأسي كما تفعل السلاحف حين تهرب، أحاول أن أُخفي الدموع المتجمّعة في عينيّ.
[ “هناك خادمة في بيت الماركيز تُجيد إعداد الشاي بشكل استثنائي… أظنّني اعتدتُ على مهارتها.”]
كانت مجرّد ملاحظة عابرة ذكرتها له ذات يوم.
لم يخطر ببالي أنّ كاسروسيان قد احتفظ بها في قلبه… وأنّه سيعيد إليّ رونا من أجلها.
شعرتُ بامتنانٍ هائل، يفوق الوصف، وكان من العسير أن أمنع دموعي من الانهمار.
—
“تبًّا!” صرخ إردان، عاجزًا عن كبت غضبه، وبدأ يبعثر كلّ ما تصل إليه يداه.
[“ابقوا على تواصل مع أخبار العاصمة.
فستصلكم قريبًا أنباءٌ ستصدمكم… وستخصّني.”]
خشي إردان أن تكون ليريبيل قد أفشت سره، فسارع إلى التحقق من الوضع هناك.
ليكتشف أنّ جثة تنين عُثر عليها في بتْرول، الأرض التي طالما احتقرها.
والأسوأ من ذلك، أنّ الإمبراطور أعلن عن بدء تنقيب مشترك مع البارونة ليريبيل، التي باتت مالكة الأرض رسميًا.
وقد جاء الإعلان فور انتهاء إجراءات طلاقه منها.
“كيف تجرؤان؟! كيف تجرؤان؟!”
رغم أنّ إردان كان متغطرسًا وأنانيًا، إلا أنّه لم يكن ساذجًا.
ومن اللحظة الأولى، أدرك أنّه قد خُدع تمامًا من ليريبيل وكاسروسيان معًا.
ومع ذلك، لم يكن قادرًا على استيعاب كيف وقع هذا الخداع بتلك الحنكة.
“ذلك الإمبراطور الأحمق لا يمتلك الذكاء الكافي… وليريبيل لا تملك هذه المهارة أصلًا.”
وأثناء عبثه الغاضب، تمتم ساخطًا:
“تيسكان؟ أهو ذلك اللقيط؟” وخرجت من صدره زمجرة وحشية.
إن كان هو الفاعل، فالأمر معقول.
لعلّه أنقذ ليريبيل من بتْرول، وكشف أسرار الأرض، واستغلّ حماقة كاسروسيان ليطعنه من الخلف.
أجل، لا شكّ أنّ هذا هو سبب ظهوره إلى جانب ليريبيل اليوم… ليذلّه.
ليجعله يتذوق مرارة فقدان زوجته، وأرضه، وثروته.
“أيها الوغد!” صرخ وهو يركل ما تبقّى من حاجياته.
وفي تلك اللحظة، بيب بيرررك― أطلق البلّور السحري الوحيد الذي لم يرمِه إشعارًا.
أسرع إردان يلتقطه.
[― ها نحن نلتقي مجددًا.]
ظهر وجه كاسروسيان على سطح البلّورة، يبتسم بهدوء.
ومن دون نظاراته الغريبة المعتادة، بدا أكثر رصانة.
[ ― سمعت أنّك تُثير بعض القلاقل وتحاول التواصل معي.
ما الأمر العاجل؟]
“أتدرك ما فعلت؟!” صرخ إردان بانفعال، كما اعتاد أن يفعل قبل أن يصبح كاسروسيان إمبراطورًا.
تجمّد وجه كاسروسيان، وتلاشت ابتسامته.
[ ― انتقي كلماتك.]
كانت جملة قصيرة، لكنّها حملت من الهيبة والسلطة ما يكفي لإخماد نيران إردان بأكثر مما تفعل خطبة مطوّلة.
لطالما كان كاسروسيان هكذا منذ الطفولة… في اللحظات التي تتوهّج فيها عيناه الحمراوان، كان يرعب الجميع، مهما بدا مترددًا أو غبيًا.
“لمَ فعلت هذا؟!” علا صوته مجددًا، لكنّه لم يتلقَّ إجابةً مهدّئة، بل:
[― لم يكن أمامي خيار.]
تغيّرت ملامحه، وتحدّث بنبرة تلقائية:
[ ― الأمر صداع حقيقي، صدقًا.]
أخذ يهزّ رأسه بيأس، وضغط على جبينه بتعب.
“أهو تيسكان؟ أهذا من تخطيط ذلك الوغد؟”
اتّسعت عينا كاسروسيان بدهشة من ذِكر الاسم، وكأنّ الأمر لا علاقة له به.
[ ― بل كانت والدتي، في الواقع.]
“والدتك؟”
[ ― الإمبراطورة الأرملة كاميلا.]
امتقع وجه إردان غضبًا.
لِم عليها أن تتدخّل في هذا أيضًا؟
[ ― صراحةً، لا أعلم شيئًا.
لا أعرف ما الذي فعلته، ولا كيف.]
رفع كتفيه واسترخى في جلسته.
[ ― لكنّني تعرّضت للتأنيب حين علمت والدتي أنّني ساعدت الماركيز على نسيان أوراق الطلاق وتغيير أسماء الأراضي.
دعمتُ الماركيز، نعم، لكنّ الأمر خرج من يدي بعد ذلك.]
“…”
[ ― لكن لا تقلق.
حتى وإن كُشف التزوير، فلن يحدث شيء.
فمعاقبة الماركيز تعني معاقبتي، ووالدتي لن تسمح بذلك.]
راوده شعورٌ جامحٌ برغبةٍ في تحطيم البلّورة على وجه كاسروسيان الضاحك.
ليت الأمر اقتصر على التزوير… ليته لم يمنح ليريبيل بتْرول كما خطّطت.
[― على الأقل، ألم أقم بدوري؟ لقد عالجتُ موضوع الطلاق بسرعة.]
“ولِمَ كنتَ سريعًا إلى هذا الحد، أيها الأبله؟” كادت الكلمات تنفلت منه.
لو تأخّر الطلاق، لربما تمكّن من عرقلته أو التهرب من دفع التعويض.
[ ― ثمّ إنّ والدتي أرسلت إليّ خادمًا من خلال كبير السحرة.
لا أعرف التفاصيل، لكن…]
زفر إردان ومسح وجهه، فقد باتت هذه الأحاديث بلا جدوى.
لقد وافق، علنًا، على الطلاق وتسليم بتْرول.
وإن كانت كاميلا هي من دبّر الأمر، فلا مجال للنجاة.
أما كاسروسيان، فلم يكن سوى ببغاءٍ يردّد “لا أعلم” وكأنّه بلا عقل.
[ ― ذلك الخادم… تبيّن أنه البارونة ليريبيل.]
“…!”
توقّفت يد إردان، التي كانت على وشك إنهاء الاتصال، وتجمّدت في مكانها.
التعليقات لهذا الفصل " 82"