“سيظل الحال على ما هو عليه مستقبلاً…
وإن طرأت مشكلة قد تُشوّه تلك الصورة التي رسمتها عنك كحاكم غير كفء، فدع تبعاتها تقع على كاهلي وحدي.”
كيف لكاميلا ألا يعتريها الامتنان لذلك الطفل الذي تقبّل طوعًا حياةً لم يشأها، فقط ليحميها من مستقبل محفوف بالمخاطر؟ حتى لو بدا أن ابن أخيه، الذي سيُتَوّج لاحقًا إمبراطورًا، يفتقر إلى المهارة السياسية، فستبقى الألسن تردد: “إنه أفضل من الإمبراطور كاسروسيان”، بفضل ابنها الذي تظاهر بالغباء، وتحمّل اللوم كي لا يطاله.
لكن كلماتها لم تصدر من شعورٍ بالامتنان وحده، بل لأنها، كما نهض كاسروسيان في الماضي لنصرة والدته، تفعل الآن ما فعلَه من أجلها.
نزَع كاسروسيان نظارته وفرك عينيه بتعب، وقد ارتسم على وجهه مزيج من الإرهاق والانزعاج.
“قولي لهم إنني أنا من أمرت البارونة ليريبيل بأن تصير خادمتك.”
“…”
“وأني أجبرتكِ على الاقتراب منها بذريعة عقد زائف، لأدفعك نحو ضمّها إلى العائلة الإمبراطورية، فنتحصّل على ثروتها الهائلة.”
رفع كاسروسيان عينيه نحو كاميلا بعد أن أزاح كفّه عن وجهه.
“حتى لو أخللتَ بوعدك لأخيك وتزوجتها، فلن يلومك أحد.
سيبدو الأمر كما لو أنني أنا من دفعك قسرًا لهذا الزواج.”
اتسعت عينا كاسروسيان، وقد شق الدهشة وجهه.
كيف عرفت كاميلا أنه تقدّم بطلب الزواج من ليريبيل لتصبح إمبراطورة؟ تُراه، هل أخبرتها ليريبيل بذلك؟
“كنت فقط أختبرك… لشدّة ما لاحظت اهتمامك المتزايد بها… لكن، هل تقدّمت لها فعلًا؟”
أغلق كاسروسيان فمه بهدوء، ناظرًا في عيني والدته المتقدتين بلون الكهرمان.
هل تمتلك كل الأمهات تلك القدرة الغريبة على النفاذ إلى دواخل أبنائهن؟ أم أن والدته كانت استثناءً فريدًا في هذا العالم؟
“لقد اقترحتُ عليها أن تصبح الإمبراطورة، لا لشيء شخصي.”
نظرت إليه كاميلا بعينٍ يملؤها الارتياب، وقد تضاعف الشك في نظرتها حين سمعت زفرته وكلماته الموحية.
“فعلتُ ذلك فقط لحمايتها من متاعب قد تجلبها إليها تلك الثروة الطائلة.”
“حقًا؟ بكل أمانة؟ لا مشاعر إطلاقًا؟ ولا حتى ذرة؟”
تردّد كاسروسيان لحظة إثر سؤال والدته الدقيق، ثم أجاب: “أظن أنها تُكنّ لي بعض المشاعر، لكنني لا أبادلها ذلك.
كل ما في الأمر أنني أرغب في مساعدتها، لا أكثر.”
رفعت كاميلا حاجبًا وأمالت ذقنها باستغراب صامت. كان من الجليّ أن العكس هو الصحيح.
كاسروسيان هو من وقع في حب ليريبيل، بينما الأخيرة لا يبدو أنها تبادله سوى مودة خافتة.
ولو كان صادقًا فيما يقول، لكانت ليريبيل هي من عرضت عليه الزواج، لا العكس.
“أفهم ما تقول، يا ولدي.
وإن لم يشقّ عليك الأمر، فسأتبع نصيحتك.
أنا أيضًا أمقت التعقيدات.”
ولوهلة، نطق كاسروسيان، الذي بدا مترددًا في قبول اقتراح والدته، بكلمات تدل على الموافقة.
“وأنا أفهم ما يتعلّق بالبارونة ليريبيل كذلك.”
ضيّقت كاميلا عينيها.
كان واضحًا أن قبولها الضمني بزواجه من ليريبيل قد طُرح، وقد خشي كاسروسيان أن تتراجع، فوافق سريعًا على عرضها ليضمن استمرارية ما تم التفاهم عليه.
“بالمناسبة… حين جئت في المرة الماضية، كنت تنوي تحمّل المسؤولية كاملة والإفصاح عن علاقتك بالبارونة، أليس كذلك؟”
فتحت كاميلا عينيها وقالت: “نعم.”
“ظننت حينها أنك أتيت غاضبًا تبحث عن متنفس، من شدّة الحدة التي ارتسمت على وجهك.”
قهقهت كاميلا ونهضت من مجلسها.
من الطبيعي أن يُهنَّأ الابن حين يعثر على حب حياته ويبني عائلة، لكنها كأم، شعرت بالاستياء حين رأت نظرات العداء في عيني ابنها بسبب امرأة، رغم أنها لم تُسِئ إلى ليريبيل، بل عرضت مساعدتها، ورغم ذلك، واجهها كاسروسيان بكلمات لاذعة كالسكاكين.
“ربما كان كذلك.”
لكن كاميلا لم تبح بما كان يعتمل في صدرها حينذاك.
فما جدوى الإفصاح لمن لم يُدرِك بعد عمق مشاعره؟ لم تكن راغبة بالتدخل في علاقات ابنها العاطفية أو إبداء رأيها فيها.
“أمي…”
ناداها كاسروسيان بصوت خافت وهي توشك على مغادرة القاعة.
“لقد أصبحت إمبراطورًا من أجلكِ، يا أماه.”
توقّفت كاميلا، وقد ارتعش ظهرها عند سماع كلماته.
“لكن تظاهري بالغباء، لم يكن لأجلك…
ولا لأجل كليفورد.”
“…”
“بل من أجلي وحدي.
فلا تقلقي.”
ابتسمت كاميلا بصمت.
كانت تدرك ذلك تمام الإدراك.
ولهذا السبب وحده، سارعت إلى مساعدته ليصير الإمبراطور “الأغبى” دون أن يُشكك أحدٌ في أمره.
فكاسروسيان كان مختلفًا عنها.
لقد وُلد وريثًا شرعيًا للعرش، يحمل في داخله مؤهلات الإمبراطور الحقيقي.
ولو كشف عن قدراته الكاملة، لرغبة العامة في أن يبقى هو الإمبراطور لا كليفورد، ولربما اندلعت النزاعات بين الفريقين.
ما فعله كاسروسيان لم يكن جبنًا، بل تضحية نابعة من بصيرة.
لقد تنكّر لمظاهر القوة، فرارًا من قيود العرش، وتلك الأغلال التي تفرضها السلطة.
في عينيه، لم تكن القصور الإمبراطورية إلا سجونًا مذهّبة.
أما هو، فكطائرٍ حر، لا يليق به إلا التحليق في فضاءات بلا حدود.
—
في طريق عودتنا إلى العاصمة، خيّم الصمت على تيسكان طيلة الرحلة.
بدت عليه علامات الشرود، وجبينه مقطّب، حتى إنني آثرت الصمت احترامًا لمزاجه.
“هل تشعر بتوعّك؟” سألتُه حين لاحظت تكراره للضغط على أعلى بطنه.
“آه…” تنبّه لصوتي وارتسمت على شفتيه ابتسامة متكلّفة.
“لسببٍ ما، أشعر براحة غريبة.”
“…عذرًا؟”
“أعلم أن ما أقوله قد يبدو ساذجًا.”
ثم حكّ ذقنه بحرج وأردف: “من الغريب أن أشعر بالارتياح بعد أن قلت كلامًا جارحًا لامرأة كنت أحبها ذات يوم… أليس هذا سخيفًا؟”
“لا أظن أن في الأمر ما يُستهجن.”
“بل هو كذلك.
وكأنني أسخر من قراراتي الماضية.” ضحك بمرارة.
ربما كان في قلبه ضغينة دفينة تجاه إلوديا، لكنه لم يبح بها من قبل، إما حياءً من سوء اختياره، أو لأن مكانته كدوق تمنعه من إظهار الضعف.
ربما كنتُ السبب في انفجار تلك المشاعر الكامنة، دون أن أقصد.
غير أنه بدا خجلًا من انفعاله، ومن راحته الغريبة بعد أن تنفّس عن غضبٍ طالما كتمه.
كنت على وشك أن أقول إن من الطبيعي أن يشعر بذلك، خاصة أن إلوديا هي من بدأت بالإساءة، لكنني آثرت الصمت.
فما يحدث بين زوجين، لا يعلمه إلا هما وحدهما.
“وهل يُعدّ الخطأ مجرّد اختيار أحمق؟”
رفع تيسكان رأسه وتأملني بصمت.
“الحياة مليئة بالأخطاء.
لا توجد إجابات مثالية، ولا نتائج مضمونة.”
“…”
“بعد أن نجلد أنفسنا بما فيه الكفاية، يمكننا أن نغفر… ونمضي.”
“…”
“وإن كانت إلوديا تمثل خطأك الأكبر، فكلماتك القاسية لم تكن لها، بل كانت موجهة إلى نفسك.
فإن كنت فقط توبّخ اختياراتك… ألا يمنحك ذلك قليلًا من السلوى؟”
نظر إليّ تيسكان في صمت، ثم ضحك بخفوت، حتى ارتجفت كتفاه.
“لو قلتِ لي جملة تقليدية مثل: ‘الحب والكره وجهان لعملة واحدة’، لما تجاوزت كلماتك أذني.”
ثم أردف بعد أن خفت ضحكته:
“كنت أعمى بحبها، ومنحتها لقب دوقة، رغم أنها من عامّة الشعب.
لم أرد أن أكرر الخطأ بدافع العاطفة، مهما كانت العاطفة.”
“فهمت…”
فذلك إذًا سبب كبحه لمشاعر الكراهية نحو إلوديا.
“لكن، إن كانت كلماتي مجرد صدى لاختياري الغبي… فربما لا بأس.
فأنا أندم عليه بالفعل.”
حينها، توقفت العربة أمام فرع برج السحر، حيث تقع بوابة الانتقال.
“شكرًا لكِ.”
“عذرًا؟”
وقف تيسكان أولًا، ثم مدّ يده لي من أسفل العربة قائلًا: “بفضلكِ، أشعر وكأن حملًا ثقيلًا قد زال عن صدري.”
كان ذا شعرٍ أسود ناعم، وعينين بلون الدم، وابتسامته تلك…
كانت كافية لتُخلخل توازن أكثر القلوب ثباتًا.
[كاس لازم يشد كرون من ذهب 😡]
التعليقات لهذا الفصل " 81"