قال كاسروسيان وهو يحدّق في الأفق بنظرة يغمرها شيء من الخجل:
“ما دمتُ لا أزال الإمبراطور، فابن أخي، وريث العرش المقبل، لن يجرؤ على معاملتي إلا بمنتهى التبجيل. وهذا يعني أن البارونة أيضًا ستُحاط بعناية فائقة، وتحيا في كنف الطمأنينة والرخاء.”
ثم استأنف الحديث، بصوت مضمّخ بالحنين:
“حين غادرت القصر الإمبراطوري وعشت وحيدًا في الماضي، كثيرًا ما شعرت بالوحدة.
أليس من الرائع أن نمضي ما تبقى من أعمارنا معًا؟ نخرج للصيد، نحتسي الشاي، نصطاد، نربي الحيوانات الأليفة، ونهرم جنبًا إلى جنب كصديقين لا يفترقان؟”
أذهلتني دقة كلماته، وكأنه تخيّل بعينيه شيخوخته إلى جانبي، حتى خانتني اللغة ولم أستطع النطق.
“أنا لا أفرض عليك شيئًا، أردت فقط أن تتأمّلي في الأمر—”
لكن فجأة، انفتح باب المكتب الإمبراطوري بعنف، مقاطعًا حديثه.
“لقد مرّ زمن طويل.”
دخلت امرأة ذات حضور ساحق غريب، بشعرٍ أحمر ناريّ يخطف الأنظار، يختلف تمامًا عن حمرة شعري الداكنة، وعينين بلون العسل العميق.
تقدّمت بخطى واثقة إلى الداخل.
“ما الذي أتى بكِ، يا أمي؟”
تجمّدت ملامحي من وقع كلمات كاسروسيان، الذي نهض لاستقبالها.
أمه؟ بدا ذلك مستحيلًا.
كانت أشبه بأخته الكبرى لا والدته.
إنها الملكة السابقة كاميلا، الإمبراطورة الأرملة حاليًا.
قالت وهي تجلس على الأريكة التي كنتُ قد غادرتها توا:
“رغم إقامتنا في القصر ذاته، لم أعد أسمع عنك شيئًا. جئت لأطمئن عليك بنفسي.”
“لو أعلمتِني مسبقًا، لكنت زرتك فور انتهاء أعمالي.”
“وكأنك مشغول إلى هذا الحد! لا تتصنّع.”
جلست على الأريكة بثقة، بينما تراجعتُ خطوة بلا وعي.
أما كاسروسيان فعاد إلى مقعده بهدوء وقال:
“أنا مشغول.”
“شاي.”
ما إن نطقت الإمبراطورة الأرملة بطلبها، حتى نهض كاسروسيان مجددًا.
رفعت حاجبها، وقد بدا الاستياء على ملامحها:
“ما الذي تفعله؟”
“ألستِ طلبتِ الشاي؟”
“ولِمَ أنت مَن ينهض لتحضيره؟”
ثم وجهت نظراتها نحوي، وقد كنت واقفة مرتبكة لحظة دخولها.
“هل وجودها هنا للزينة فقط؟”
تحركت بسرعة نحو طاولة الشاي، أشعر بالخزي لأنني نسيت دوري الحقيقي كخادمة.
سأل كاسروسيان بينما كنت أُعدّ الشاي:
“ما الذي جاء بكِ حقًا؟ لا أظن أن غايتك شاي.”
فجأة، التفتُّ وأنا أحمل إبريق الشاي، لأجدها تتصفّح كتالوج الفساتين الذي كنتُ أعبث به منذ قليل.
قالت بازدراء:
“منذ صغرك لم تُبدِ اهتمامًا بالنساء.
أكنت تنظر في هذا الكتالوج لتختار فستانًا لامرأة ما؟”
كدت أن أُسقط الفنجان من يدي.
هل سمعَت حديثنا، أم رأت شيئًا؟
ثم تابعت قائلة:
“هل كانت البارونة ليريبيل هي من تتصفّحه؟”
نظر إليّ كاسروسيان نظرة تعني: “غادري المكان”، لكنه بدا مذهولًا بدوره ولم ينبس ببنت شفة.
تذوّقت الشاي ثم قالت ببرود:
“مريع.”
ثم رمقتني بنظرة ممتعضة، فأخفضت رأسي.
سألها كاسروسيان محاولًا كتمان ارتباكه:
“كيف علمتِ؟”
“لويس أخبرني.”
“هاه…”
تنهد كاسروسيان بعمق.
“إذاً، لم يأتِ فقط للشكوى بل فضح كل شيء.”
ردّت بحدة:
“أما سيد البرج، فرغم تهوّره ووقاحته، إلا أنه يعرف ما ينبغي أن يُقال وما يجب كتمانه.
يمتلك قدرًا من الحكمة، على الأقل.”
هل كانت تُثني عليه أم تُهينه؟ لم أستطع أن أجزم.
“وكيف عرفتِ؟”
“أنت تدرك مدى ولعه بالمال.
دفعت له.”
“…”
“لا تنظر إليّ هكذا.
أنت أيضًا تغرقه بالجواهر حين ترغب بشيء.”
تنهد كاسروسيان مجددًا، غارقًا في بحر أفكاره.
قالت بهدوء:
“هو باهظ الثمن لأنه لا يتحرك إلا بمقابل يراه ملائمًا.”
“ولِمَ لم تتجاهلي الأمر؟ ألهذه الدرجة أردتِ معرفة الحقيقة؟”
“نعم.”
شعرت بأنفاسي تُحبس في صدري.
حاولت أن أتسلل من المكان دون أن ألفت الأنظار، لكنني لم أنجح.
قالت وهي ترتشف الشاي ثم تضعه من جديد:
“عندما علمت أنك تحتفظ بخادمة مجهولة الهوية تتنقل قربك منذ أشهر، وجب أن أتحقق.”
تابعت:
“انتظرت أن تصارحني أو تتخذ موقفًا، لكنك لم تفعل.”
“لم أظن أنك مهتمة بأموري.”
“هل كنت تتصفّح الكتالوج لاختيار فستان لحفل خطوبة المركيز إردان؟”
صُدمت من حدسها، ورغم عشوائيته، إلا أنه أصاب كبد الحقيقة.
“حتى لويس لا يعلم بذلك، فكيف عرفتِ؟”
“تيسكان؟ مستحيل. مهما حاولت، بقي صامتًا.
أما زلت تظن أنك بارع في اختيار الأشخاص؟” قالت بسخرية، ثم تابعت:
“لكن الأمر لا يحتاج إلى سحر.
فقط اسأل أي امرأة متزوجة: من التي لا تحلم بالانتقام من رجل خانها وكاد يُهلكها ليفوز بعشيقته؟”
“كلامك قاسٍ يا أمي…”
“بقي أقل من أسبوعين على الحفل، والبارونة تتفحّص فساتين؟ واضح وضوح الشمس.”
رغم أنها كانت تفترض، إلا أن ثقتها أربكتنا، وجعلتنا نصدق بأنها تعرف كل شيء.
ثم قالت فجأة:
“أعطني البارونة ليريبيل.”
رمت بجملتها القاتلة ببرود، وألقت الكتالوج على الطاولة، مكتفة ذراعيها.
ردّ كاسروسيان بنبرة صارمة:
“أمي، تحلّي بالاتزان الذي يليق بمقامك.
البارونة ليريبيل ليست شيئًا يُمنح أو يُنتزع.”
كان صوته حادًا، ونظراته كالسيوف.
لكنها ضحكت بسخرية وقالت:
“أنت من يحتاج إلى الاتزان، لا أنا.”
ثم فجأة…
طعخ!
رمت الكتالوج في وجه كاسروسيان، الذي أمسكه بيده دون أن يرمش.
قالت بابتسامة باردة:
“أليس كذلك، عزيزي؟”
ظلّ صامتًا، يحدّق بها بلا كلمة.
…شعرت وكأنني سنجاب صغير، عالق بين صراع مرعب بين وحشين.
التعليقات لهذا الفصل " 70"