قال أحدهم: “اشرح الأمر بتفصيلٍ أدق.”
فأجابه آخر: “يبدو أن الشخص الذي زعم قتل التنين، هو من استحوذ على قلبه.”
نقر كاسروسيان لسانه بضيق، وأمرّ أنامله فوق جبينه المجعّد، في إيماءةٍ لا تخفى دلالتها على الانزعاج والتبرّم.
هل كان قلب التنين هو ما وعد كاسروسيان به لويس مقابل تعاونه؟
لويس، الذي طالما بدا لا مباليًا، كان يُبدي اهتمامًا غريبًا، يكاد يلامس الهوس، بذلك القلب الأسطوري.
أما كاسروسيان، الذي ادّعى أنّ غايته الوحيدة هي التخلّص من الجثة درءًا للمشكلات، فقد بدا مضطربًا وممتعضًا حين بلغه نبأ اختفاء القلب.
في ضوء ذلك، لم يكن الأمر محض صدفة.
ربما كان قلب التنين هو الثمن الذي أغرى لويس بالانضمام إلى هذه المعركة.
تمتم كاسروسيان: “هل يُحتمل أن يكون في مقرّ الماركيز؟”
وما إن نطق بتلك الكلمات، حتى قفزت الفكرة إلى ذهني كشرارة: المقرّ.
هل من الممكن؟
في الطابق الخامس من قصر الماركيز، تُخزّن كنوز العائلة، ولا يُسمح بدخوله إلا للورثة الشرعيين.
وحتى بعد أن صرتُ وصيةً على المقاطعة، لم أسبق أن وطأت عتبته.
لا لأنني كنت ممنوعة، بل لأنني لم أعتبر نفسي أهلًا له.
رغم علمي بوجود ذلك المكان عبر بريسيلا، إلا أنني، ومنذ أن صرتُ زوجة للماركيز الشاب مصادفة، ووصيّة مؤقتة، ظللت أشعر بأني دخيلة، لا أملك الحق في لمس إرثٍ لا يُنسب إليّ، حتى حين اضطررت للإنفاق من مالي الخاص لتسيير شؤون المقاطعة.
قال كاسروسيان بعد صمت وتأمل: “لنزرع أعينًا لنا في مقرّ الماركيز.
ربما باع أحد الورثة القلب في العاصمة دون أن يدرك حقيقته.
علينا مراجعة سجلات التوزيع كذلك.”
ثم أضاف وهو يمرّر أصابعه على ذقنه: “قلب التنين يبدو كجوهرة ضخمة، وقد يُظنّ أنه مجرد حجر كريم.
تتبّع السجلات القديمة وزرع الجواسيس سيتطلب وقتًا، فلتتحلَّ بالصبر.”
قطّب لويس حاجبيه، وقال ببرود: “ساعدتُك، يا صاحب الجلالة، لأني بحاجة إلى قلب التنين.”
ردّ كاسروسيان: “أعلم ذلك.
ولم أقل إنني لن أمنحك إياه.
سأجده، وأقدّمه لك.”
لكن لويس لم يبدُ مقتنعًا.
ظل صامتًا لحظة، ثم نهض فجأة وسار نحو الباب بخطى حازمة.
سألته: “إلى أين أنت ذاهب؟”
أجاب بثقة: “إلى والدتي.”
ارتفع حاجبا كاسروسيان دهشةً، فتابع لويس: “كانت السيدة كاميلا تردد دومًا: تعال إليّ إن أغضبك كاسروسيان.”
فتح كاسروسيان فمه كمن يوشك على الاعتراض، لكنه أغلقه بصمت، مستسلمًا. ثم غادر لويس القاعة.
همستُ أنا: “قلب التنين…”
ردّ كاسروسيان على الفور، وقد ارتسم على وجهه الإرهاق: “همم؟”
قلت: “إن كان محفوظًا في مقرّ المركيز، أعتقد أنني أعرف موضعه.”
ولأني لم أكن متيقّنة، لم أجرؤ على قول ذلك أمام لويس، خشية أن يقتحم القصر رأسًا على عقب بحثًا عن القلب.
قال كاسروسيان وهو يتفرّس وجهي: “كما ظننت.”
“عذرًا؟”
“ردّة فعلك أكّدت شكوكي.”
هل كانت ملامحي بذلك الوضوح؟ ظننت أنني لم أفصح عن شيء.
قلت بنبرة خافتة: “في الطابق الخامس من قصر آل فيديليو، هناك غرفة لا يدخلها سوى الورثة المباشرون، تُخزَّن فيها ممتلكات العائلة الثمينة.
أظنّ أن القلب ربما وُضع هناك.”
كنت أفشي سرًا يعود لعائلة إردان، ومع ذلك، لم أشعر أني أخون أحدًا.
ذاك القلب من حقي، وقد استقرّ في يدٍ لا تستحقه.
ولو لزم الأمر أن أفضي بأسرار أكثر لأستعيده، لفعلت.
قال كاسروسيان: “أقدّر لكِ عدم كشف هذا أمام لويس.”
ثم تنهد وقال: “لو علم، لأحدث فوضى لا تُحتمل.”
ويبدو أنّنا تشاركنا ذات الهواجس.
“هل يمكنكِ كتمان الأمر إلى أن تنتهي التحقيقات؟”
“بالطبع.
وإن احتجتَ عوني، فأنا في خدمتك.”
“أشكرك.”
ثم تردّدتُ برهة، وقلت: “بشأن المساعدة التي ذكرتها سابقًا…”
“تفضّلي.”
“هل يمكنكَ، جلالتك، أن تُرتّب لي لقاءً مع الدوق الأكبر تيسكان؟”
كان طلبي صريحًا، وربما جريئًا، لكنه في نظري لم يكن ثقيلًا على كاهله.
لقد آن أوان التحرّك. خطوتي الأولى: عقد تحالف زائف مع تيسكان، كما كنت أخطط.
وإن لم يوافق، فسأنتقل للخطة البديلة.
لكن ما إن أنهيتُ طلبي، حتى ارتسم على وجه كاسروسيان مزيج من الحيرة والانزعاج…
—
في اليوم التالي،
قابلتُ الدوق تيسكان كما رتّب كاسروسيان، رغم تردّده الواضح.
“كيف حالُك، سموّ الدوق؟ هل كنت بخير؟”
ابتسم تيسكان ابتسامة شاحبة، وأجابني بتحية رسمية: “بفضلكِ، كنتُ بخير.
وأنتِ، يا بارونة؟”
رغم شوقي لرؤيته، لم تستطع شفتاي سوى رسم ابتسامة مماثلة، فاترة.
سار أمامي بصمت، مشيرًا لي أن أتبعه.
عبرنا حديقة القصر الإمبراطوري المغمورة بالسكون، ولمّا مضت خمس دقائق، سمعتُ صوت انغلاق ساعة جيبٍ بحدة.
لم يكن للكلام موضع، فابتسمتُ بمرارة.
كان يُخرج ساعته بين الحين والآخر، يُراقب الزمن، وحين طال صمتي، أغلقها بعنف وكأنّه يُنذرني بأن الوقت قد نفد.
فهمتُ من تصرّفاته أن اقتراحي سيرُفض.
لكن…
لمَ لا أبوح به؟ حتى وإن رُفض، فلن يكون الوقت مهدورًا بالكامل.
“السبب الذي جعلني أطلب لقاؤك، يا سموّ الدوق، هو…”
تردّدتُ لوهلة، ثم نطقت بها: “كنتُ أرغب في اقتراح علاقة زائفة تجمعنا.”
أجابني دون تردّد: “أرفض.”
كما توقّعت تمامًا.
كنت قد خطّطت لهذا بعد أن أظهر تيسكان برودًا تجاه إلوديا، وامتنع عن دفع نفقة الطلاق لها.
ظننتُ أنه قد يساعدني في الانتقام منها ومن إردان.
لكن إن لم يكن ذلك ممكنًا، فلا بأس.
“أتفهّم.
وأعتذر إن بدا حديثي متجاوزًا.”
توقّفتُ، وانحنيت احترامًا: “سأسعى لردّ الجميل، وللاعتذار عن تسرّعي، كما فعلتَ معي ذات مرّة.”
ثم التفتُّ كما فعل هو، وهممت بالمغادرة.
لكنه قال فجأة: “لديّ سؤال.”
“تفضّل.” نظرتُ إليه بثبات.
“هل ستُجيبينني؟”
“نعم.”
ارتفع حاجباه قليلاً، مستغربًا: “رغم أنني رفضتُ عرضك؟”
أجبته: “نعم.”
لقد أسدى إليّ معروفًا، وكنت أعلم أن طلبي قد يكون مستفزًا، فلم يكن لديّ ما يبرّر الامتعاض منه.
“هل تودّ تأجيل السؤال؟”
سألته بهدوء، بينما كنت أفكّر في خطوتي التالية.
قال أخيرًا: “لا.
سأسأل الآن.”
“فلتتفضّل.”
“سؤالي بسيط: ما الذي تنوين فعله من الآن فصاعدًا؟”
توقّفتُ، وسكنتُ برهة…
ثم رمشتُ بصمت.
التعليقات لهذا الفصل " 66"