“استرح قليلاً، يا جلالة الملك.”
قالت ليريبل ذلك بابتسامة امتزج فيها القلق بالسكينة، فيما كان كاسروسيان يوشك على دخول غرفته للراحة بعد إنهائه مهامه اليومية.
لقد راقبته طوال اليوم وهو يتصرف على نحو غريب، والآن شعرت ببعض الاطمئنان؛ لم يحدث ما يُنذر بالخطر…
فربما إن حصل على قسط وافٍ من النوم، يستيقظ غدًا بحالٍ أفضل.
لكن ابتسامتها الرقيقة لم تمر دون أثر.
فقد غطى كاسروسيان فمه بقبضته، غير أن حمرة وجهه، التي تسللت من وجنتيه حتى أطراف أذنيه، فضحته دون رحمة.
“با… ليري… ر… اللورد ريو!” تمتم وهو يندفع نحو غرفته بانفعال لم يخفَ على أحد.
“ما الذي حدث؟”
“هل احمرّ وجه جلالته فعلاً، أم أنّني أتخيل؟”
تساءل الخدم بدهشة، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الحيرة إزاء تصرفه غير المألوف.
“آه…” تنهد كاسروسيان بانزعاج وهو يشد على خصلات شعره، متذكرًا المشهد المحرج الذي مضى لتوّه.
منذ أن بدأت فكرة أن ليريبل قد تُكنّ له شيئًا من المشاعر تهمس في ذهنه، لم يعد بمقدوره أن يغض الطرف عنها.
صار يترصد نظراتها، يفتش في كلماتها، ويراقب حتى أنفاسها…
كل تفصيلة باتت تأسره، حتى أن عقله لم يعد يتسع لشيء سواها.
“ما الذي يفترض بي فعله؟”
ببطء، نزع شعره المستعار ونظارته الثقيلة، وجلس أرضًا مستندًا إلى الباب، بسط إحدى ساقيه، وأسند ذراعه عليها.
“شكرًا لتفهمك.
تذكر أن هذا الطريق هو الأضمن لك ولوالدتك.”
كست ملامحه غمامة قاتمة، وهو يستحضر الوعد القديم الذي قطعه لأخيه.
وعد لم يُقال صراحة، لكنه كان حاضرًا في كل النظرات والتلميحات: ألا يتزوج، وتحديدًا، ألا يخلّف وريثًا.
كان توباياس، ولي العهد الراحل، يراقبه بقلق دائم؛ لا لذنب اقترفه، بل لأنه ابن محظية.
وعلى الرغم من أن كاسروسيان ووالدته عاشا بعيدًا عن القصر في إحدى ضواحي إردان بهدوء، فإن الحذر لم يفارق قلب توباياس، حتى فرض عليه ذلك “الاتفاق الضمني”.
ومع وفاة توباياس، لم يعد هناك مبرر حقيقي للالتزام بذلك الوعد.
لكن ذاكرة الناس لا تصدأ…
الجميع يذكر أنني عاهدته ألا أتزوج وألا أنجب.
وما دام كاسروسيان يعتلي العرش بصفته حاميًا لابن توباياس، فإن أي خطوة نحو الزواج أو إنجاب وريث ستكون كمن يشعل نارًا في هشيم السياسة.
فتح عينيه ببطء.
“ما الذي أعنيه حين أقول: ماذا عليّ أن أفعل؟”
مشاعره تجاه ليريبل، من وجهة نظره، لا تستحق حتى التفكير فيها؛ فهو لا يعتزم الزواج أصلاً.
لذا فهذه الأحاسيس باطلة منذ ولادتها.
عليّ أن أكون صارمًا. باردًا.
قاسيًا، إن لزم الأمر، كي تمنح نفسها فرصة لتستوعب ما تشعر به وتُعيد ترتيب قلبها.
وإن اضطُرّ إلى صدّها، فليكن قاسيًا… كي لا يزرع أملًا كاذبًا.
حتى لو كرهته، فلا بأس؛ فقد اعتاد أن يكون مكروهًا في سبيل ما يؤمن به، ولم يكن ذلك يومًا عبئًا عليه.
“…”
ورغم هذا القرار الحاسم، بقيت ملامحه مثقلة بالكآبة.
يا للخسارة…
تخيل وجه ليريبل، نديًا كزهر الصباح، تتدفّق منه المشاعر برقة.
تخيل عينيها السوداوين تتلألأان بفرح نقي، ثم تتجاوزانه كما لو كان غريبًا… لا يساوي عندها شيئًا.
ذلك سيكون مؤلمًا بحق.
ابتسم بسخرية وخفَض بصره.
إن نظرت إليّ كما تُحدق في عابر سبيل… هل سأحتمل ذلك؟
ربما… لو لم يعتد دفء نظراتها، لكان الأمر أهون.
…ربما لا حاجة لكل هذا الصد.
بدأت قسوته تتراجع في داخله.
ليريبل، في الأصل، ليست ممن يكشفون عن مشاعرهم بسهولة.
وقد جُرحت سابقًا في تجربة زواج تركت أثرًا عميقًا في نفسها.
لعلها لا تعي ما تشعر به أصلًا… وربما هو فقط من بالغ في تفسير تصرفاتها، بحكم رهافة إحساسه تجاهها.
فلأدع المسألة جانبًا الآن.
ما دام عقد الزواج المؤقت لا يزال قائمًا، فلن يضيف التوتر سوى التعقيد.
طالما أنها لم تُفصح، فالتغافل هو الخيار الأسلم مؤقتًا.
“فلنمضِ في ذلك.”
همس لنفسه وهو ينهض متوجهًا إلى الحمّام.
لم يدرك آنذاك أن هذا التراجع المؤقت، وهذه المواربة، لا تشبهه أبدًا.
—
كنت أرقب خروجه بقلق دفين.
ماذا لو كان مريضًا حقًا؟ تصرفاته الغريبة البارحة لم تبارح ذهني طيلة الليل.
وإن بدا متوعكًا اليوم أيضًا، فلن أتردد في توسله بأن يأخذ قسطًا من الراحة.
في غمرة تلك الهواجس، فُتح باب غرفته ببطء، وخرج كاسروسيان.
“…!”
تجمدت مكاني. بدا مختلفًا!
“صباح الخير.”
تفاجأ الجميع، ومع ذلك، مرّ بنا بهدوء واتجه إلى مكتبه كأن شيئًا لم يكن.
سألته بينما أعد له الشاي:
“هل غيّر جلالتك تسريحة شعرك؟”
كان شعره اليوم أشعثًا قليلًا ومائلًا إلى الخلف، على خلاف الترتيب الدقيق المعتاد (2:8).
“آه…”
تناول الكوب مني وابتسم بخجل.
“تذكرت فجأة شيئًا قالته البارونة سابقًا.”
“قلت شيئًا؟” سألت بدهشة، ورفعت حاجبيّ باستغراب.
“قلتِ مرة إن هذه التسريحة غير المرتبة تليق بي أكثر.”
قالها مترددًا، بصوت خفيض يخالطه الحياء.
تذكرت تعليقًا قديمًا قلته عرضًا، لم أتخيل أبدًا أنه سيأخذه على محمل الجد.
“لم أكن أعلم أن جلالتك احتفظ بتلك الملاحظة في ذهنه.”
“لقد نسيتها بدوري، لكنها راودتني فجأة.”
“وهكذا قررت تغيير مظهرك؟” سألت مبتسمة.
أومأ بخفة، ثم ارتشف من الشاي.
“أعتقد أن البارونة أكثر من رآني عبر السنوات.”
“نعم، هذا صحيح.”
“لهذا رأيت أن أستمع لرأيك… فأنت الأدرى بهيئتي.”
تسلل إلى قلبي شعور غريب… بدا لي كصبي صغير يبدّل تسريحة شعره فقط لأن فتاة تعنيه قالت له إنها تليق به.
سخرت من نفسي.
يا لها من فكرة طفولية!
حتى لو تغاضينا عن جنون احتمال أن كاسروسيان يحبني…
فهل يُعقل أن يتصرف بهذه العفوية؟
“أنا حقًا أحب دقتك وطيبتك، يا جلالة الملك.”
“…!”
ارتجفت يده التي تمسك بالفنجان، ونظر إليّ بذات النظرة التي يرمق بها المرء صفعة مباغتة.
“أتذكر أنك اعتذرت لي ذات يوم، وقلت إنك سيد يحرجني…
لكن السبب الذي أغضبني لم يكن خجلي منك.”
“…”
“غضبت لأني أحبك…
ولم أحتمل سماع كلمات تجرحك.”
شاهدت وجهه يشحب من خلف نظارته، وشفتيه تتحركان دون أن يصدر عنهما صوت.
كم اعتاد أن يُكرَه…
حتى أنه لا يعرف كيف يتصرف حين يسمع أن أحدًا يحبه؟
شعرت بر
أفة غريبة… ووجع خافت غمر قلبي.
“رجاءً…
لا تعتد على أن تُبغَض.
هناك من يحبك بصدق، مثلي، يا جلالة الملك.”
لم يجب.
فقط جلس هناك، مذهولًا، تتلبسه الحيرة…
ثم شيء آخر:
العجز؟
التعليقات لهذا الفصل " 63"