وصيفة خاصة؟
رغم أن إلوديا كانت تعتزم استدعاء السيدة مايكونري مرارًا لتوطيد العلاقة بينهما، لم يخطر ببالها يومًا أن تجعلها وصيفتها الخاصة.
فهي، وإن كانت على وشك أن تُصبح سيدة هذا القصر، لم تنسَ أنها لا تزال تنتمي لعامة الشعب.
قالت السيدة مايكونري، وهي ترمق رونا وبقية الخادمات الواقفات بمحاذاة الجدار بنظرة صارمة:
“كم من المعاناة تكبّدتِ، وأنتِ محاطة بخادمات لم يُراعين مقامك، وأخريات سمح لهنّ البعض بذلك؟”
ومنذ تلك اللحظة، خفت صوت رونا بشكل ملحوظ.
رؤية تلك الخادمة المتغطرسة وقد انكمشت على ذاتها، تتلفّت بقلق في محيطها بعينيها الواسعتين، بثّ في إلوديا شعورًا بالرضا العميق.
ابتسمت السيدة مايكونري ابتسامة تنطوي على معنى وقالت:
“أنتِ روح نقية، تسعين حتى لتقويم خادمة مثلها عبر إبقائها إلى جواركِ.”
فاكتفت إلوديا بأن ردّت تلك الابتسامة بأخرى متزنة، كما لو كانت سيّدة متمرّسة تهذب وصيفة ساذجة.
قالت السيدة مايكونري بعدها بنبرة حازمة:
“سأكون وصيفتك الخاصة، وسأتولّى كل ما قد يشغل بالكِ.
اتركي هذا الشأن لي.”
فأجابتها إلوديا باقتضاب:
“حسنًا.”
لم تجد سببًا وجيهًا للرفض.
فموعد حفل الخطوبة بات وشيكًا، وما دامت السيدة مايكونري قد بادرت من تلقاء نفسها، فلا مجال للقلق، أليس كذلك؟
فالسيدة مايكونري كانت الوصيفة الخاصة للماركيزة السابقة بريسيلا، ورافقتها حتى الرمق الأخير.
لذا، فإن قبولها العمل مع إلوديا — رغم مكانتها الاجتماعية المتواضعة وسمعتها المشوّهة بفعل مكائد ليريبيل — لم يكن بالأمر الهيّن.
لقد كانت خطوة رمزية ذات دلالة، ومثّلت دعمًا علنيًا صريحًا.
قالت إلوديا:
“أشكركِ.
آمل أن يكون تعاوننا مثمرًا.”
فردّت السيدة بأدب جم:
“الشرف لي.”
شعرت إلوديا بنوع من الارتياح.
في خضم وحدتها، وجدت من يمدّ لها يد العون، ويخفّف عنها ثقل الترتيبات لحفل الخطوبة.
لكنها، وسط هذا الشعور المطمئن، أغفلت نظرات التواطؤ التي تبادلتها ماكوينري مع رونا.
“يا لها من امرأة مثيرة للشفقة.”
هكذا فكّرت رونا وهي تُمعن النظر في وجه إلوديا المشرق.
فرونا، بصفتها خادمة عادية، لم يكن بمقدورها الكثير.
أما السيدة مايكونري، بنبلها ومكانتها، فكانت تملك التأثير.
“إن تمكّنا من كسب ودّها وتملّقها، فسيمكننا السيطرة على قلبها.”
كانت خطّتهما بسيطة: استغلال إلوديا لاغتيال إردان.
فمهما بلغت قوته، من الصعب أن ينجو من خيانة ناعمة تتسلل من مخدعه، كما تفعل الهمسات على الوسادة.
كانتا تعتزمان زرع الشك بين إلوديا وإردان، حتى تصل بها الحال إلى لحظة تفقد فيها السيطرة وتقدم على قتله.
وإن فعلت، فلن يكون مصيرها بأفضل من مصيره.
“سواء نجحنا أو لا، لا خيار أمامنا سواه.”
فـرونا لم تجد سبيلًا آخر لمواجهة إردان وإلوديا، اللذين شعرت بارتباطهما الخفي بحادثة ليريبيل.
وهكذا، رأت في هذه الخطة الملاذ الوحيد لإنصاف سيدتها السابقة.
—
وفي مكانٍ آخر…
كان كاسروسيان غارقًا في القلق في الآونة الأخيرة.
فقد سارت خطة إردان لتزييف وفاة ليريبيل بسلاسة، وتم تتويجه رسميًا.
فوق ذلك، أُعلن عن خطوبته بـإلوديا.
ولعلّ ذلك ما جعل ليريبيل تبدو شاحبة.
بهتان في بشرتها، وهزال ملحوظ في جسدها، كأنها هجرت الطعام.
أما عيناها، اللتان كانتا تفيضتان بالحياة، فقد خبا فيهما البريق وأصبحتا زائغتين.
“على الأقل، لا تزال تملك بعض الطاقة، وهذا أمر مطمئن.”
فرغم كل شيء، شعر كاسروسيان بشيء من الطمأنينة حين وجدها تتجادل مع الكونت هيربرت.
كانت قدرتها على الردّ دلالة على أنها لم تغرق تمامًا في مستنقع الكآبة.
ولم يكن يهمه سبب انزعاجها منه، بل وجد نفسه مبتهجًا لمجرد رؤيتها تتصرّف على سجيتها.
“جلالتك، تبدو متألّقًا اليوم.”
لكن كاسروسيان لاحظ شيئًا غريبًا في سلوكها.
“لا أحد يرتدي هذا الطراز بجمالك، يا مولاي.”
مع مرور الوقت، أصبحت كل نظرة تلتقي بها عيونهما مصحوبة بمديحٍ منها.
“خطّ يدكم أنيق، يا مولاي، وهو انعكاس لرقيّك. “
وكأنها آلة لا تملّ من الإطراء.
“حتى أصابعك مبهرة، وأظافرك بلون الخوخ الرقيق.”
من التفصيلات البسيطة…
“أنجزت مهامك على أتم وجه اليوم.
لا شك أن الأمة فخورة بإمبراطور مثلك”
…إلى مديح شامل واسع النطاق.
ولم تكتفِ بالكلمات، بل كانت، كلما نظر إليها، تبتسم وتضع يدها على صدرها وتهمس: “تشجّع!”
سواء شرب قهوته، أو تناول وجبته، أو حتى مشى، كانت تُشجّعه بلا انقطاع.
“ما الذي يحدث؟”
تأمّل كاسروسيان الجدار المقابل، حيث علّقت تسعة وعشرون إطارًا لرسائل تلقّاها من ليريبيل في السابق.
لم يكن منزعجًا من سلوكها، بل ربما شعر بالامتنان. فالإطراء، حتى وإن بدا بسيطًا، له أثر طيّب في النفس — خاصة لرجل مثله، طالما وُصف بالعجز.
“لكن… لماذا؟”
تساءل مرارًا.
لماذا الآن بالتحديد؟ إلى أن تذكّر: هذا لم يبدأ مؤخرًا.
لقد شرعت باللطف منذ تلك الرسالة…
جال بنظره بين الرسائل حتى استقر على واحدة:
[“إمبراطور حكيم ومحبّ مثلكم لا بد أن يحظى بزواج سعيد.
أما مثلي، فلا تستحق سوى الظلّ.
السيدة التي ستختارها لا شك أنها تضاهي عظمتك
ولا أخفيك، أنني لا أغبطها، بل أبقى مستيقظة أتأمّل بمستقبل الإمبراطورية بين يديك. “]
كلمات كان قد تجاوزها ذات مرة بلا اهتمام، لكنها الآن بدت مثقلة بالمعنى.
“هل كانت تحبني منذ ذلك الوقت؟” “هل كانت تلمّح لمشاعرها؟”
ظل يقرأ الرسالة مرارًا تلك الليلة، حتى إذا أطفأ الأنوار وتمدد على فراشه، لم يُغمض له جفن.
فقد بقي وجه ليريبيل يطارده في ظلمة الغرفة.
—
في اليوم التالي، اقتربت منه وسألت بقلق:
“هل هناك ما يزعجك يا مولاي؟ تبدو وكأنك لم تنام جيدًا.”
ارتبك.
“هل لاحظت؟ هل تهتم لأمري فعلًا؟”
قالت لاحقًا:
“طلبت من الطهاة إعداد وجبة مغذية للغداء.
قد تكون ثقيلة بعض الشيء، لكن صحتك هي الأهم.”
لم يكن هذا الاقتراح من بنات أفكارها، بل أوعز به كبير الخدم، وقد تولّت هي فقط إبلاغه.
“…اعتراف؟”
لكن كاسروسيان لم يعلم الحقيقة، وغرق في خيالاته.
قالت بعد ذلك:
“لا تُجهد نفسك كثيرًا، فالصحة تاج العقل.”
ففهم هو: “هل تقترح أن نعقد زواجًا بسيطًا دون حفل خطوبة؟”
حتى حين غمست ريشته في كوب الشاي خطأً، فصرخت:
“مولاي! لا تشرب ذلك!”
فكّر: “هل تلمّح إلى قضاء شهر العسل في قصر الزجاج؟”
وحين مسحت بقعة الحبر عن يده، ابتسم هامسًا في قلبه:
“طفلان؟ فتى يشبهني وفتاة تشبهك؟”
[يضحككك 😭]
وحين اقترحت إلغاء عشاءه مع الماركيز كينيث ليأخذ قسطًا من الراحة، قال في سرّه:
“تودّين التقاعد معي بعد أن أُورّث العرش لابن أخي؟”
أومأ موافقًا، بينما كانت أوهامه تتضخّم…
بلا رادع.
___
بطلنا حليو 🥺(احب احرق عليكم).
التعليقات لهذا الفصل " 62"