“أوه، حقًا؟”
في الواقع، لو أن الكونت هيربرت أصرّ على الجدال، لكنت لجأت إلى نفس الحيلة السابقة، قائلة: “عمّ تتحدث؟ لم أقل شيئًا”
كما فعلت من قبل.
لكن ردة فعل كاسروسيان ومن معه، الذين بدوا وكأنهم قرأوا أفكاري قبل أن أنطق، دفعتني إلى اتخاذ قرار بعدم التدخل.
“أيها الكونت”، تمتم كاسروسيان بامتعاض ثم قال: “هل بدأت تتوهم الأمور؟”
“…!”
“هذا ليس عارضًا بسيطًا، بل اضطراب عقلي.
أنصحك بإجراء فحص دقيق.
أقول هذا بدافع الحرص عليك.”
“لـ-لكن هذا ليس ما حدث…”
“اذهب أولاً.
لا حاجة للمجاملات.
لست من القسوة لأجبر مريضًا على التقيّد بالشكليات.”
بجملة واحدة فقط، حوّل كاسروسيان الكونت هيربرت إلى مريض، ثم أكمل طريقه نحو المكتب دون أن يلتفت.
“أعتذر، جلالتك.
سأكون أكثر حذرًا في المستقبل.”
انحنى كبير الخدم بعمق، بينما رمقته بنظرة متسعة، متسائلة: ما الذي يحدث الآن؟
“نعتذر، جلالتك.”
حتى الفارس الذي دفعني، والموظفون الذين تجاهلوا تصرفي، انحنوا معًا لكاسروسيان معتذرين.
هؤلاء الناس…
زممت شفتي بضيق.
لا يريدون تحمل المسؤولية، فاختاروا استخدامي ككبش فداء؟ هل يظنون أن كاسروسيان سيتغاضى عن تصرفي مجددًا كما فعل في السابق؟
“كفى.”
لكن تقديرهم كان خاطئًا.
لو لم يكن كاسروسيان مستاءً فعلًا، لاكتفى بالقول: “لا بأس.” ولما انسحب بصمت.
حين لاحظ الجميع تغير ملامحه، رمقني الفارس الذي دفعني بنظرة اعتذار، مغمزًا وهو يتمتم “آسف”، في حين بدا الارتباك جليًا على وجه كبير الخدم وهو يلتفت نحوي.
“…”
ترددت في اللحاق بكاسروسيان إلى مكتبه.
لم يكن خوفي من توبيخه، بل من شعور بالخجل… أشعر أني تسببت في إزعاجه.
أنا أيضًا…
عقدت يدي وخفضت بصري.
أدركت أنني، بدوري، ظننت أنه سيتسامح كعادته.
لكن مجرد تسامحه في مرة سابقة لا يعني أنه سيفعل مجددًا.
“بففف.”
“…؟”
رنّ صوت ضحكة مكبوتة في المكان.
“هاهاهاها!”
انفجر كاسروسيان ضاحكًا، ضحكة عالية من الأعماق، واضعًا يده على جبينه وهو يهتز من شدة الضحك.
“كان من الصعب كتم الضحكة.” قال هامسًا بعد أن هدأ.
“ألست غاضبًا؟” سألته وأنا أحدّق فيه.
استدار عني وأجاب: “لا؟”
جاء صوته نافياً، مستغربًا، وكأنه يتساءل عن سبب ظني بأنه غاضب.
“بالمناسبة، ما قالته البارونة قبل قليل… هل كانت إهانة؟”
لم أكن قد أجبت بعد، حين عاجلني بالسؤال.
“نعم.”
“توقعت ذلك. لم أشعر بهذا القدر من الانتعاش منذ زمن.”
وضع يده على أعلى بطنه، وكأنه يروّج لإعلان دواء للهضم.
“لكن، بأي لغة تحدثتِ؟ لم أسمعها من قبل.”
“…إنها من اللغات القديمة.”
لم يكن من السهل الشرح، فاختلقت الجواب.
رفع حاجبيه بدهشة، وكأن وجهه يقول: “أهذه لغة حقيقية؟ ولم أسمع بها قط؟”
“ظننتك غاضبًا، جلالتك.” تمتمت حين بدأ يهدأ.
ضحك بخفة، وقال: “أظن أن البارونة تعرف ذلك، لكنني أتعمد أن أبدو ساذجًا.”
“نعم، توقعت شيئًا من هذا.” أومأت بخفة، وإن لم أفهم تمامًا سبب رغبته في ذلك المظهر.
“لهذا أترك أمثال الكونت هيربرت وشأنهم.
وجودهم ينشر فكرة ضعفي بسرعة.”
حين سمعت ذلك، أطرقت رأسي خجلًا.
لقد تسببت مرتين في تصعيد الأمور معه، وهو لم يكن يريد ذلك. لقد عرقلت خططه.
“تعاطفك العميق وصراحتك العفوية يوقعانني أحيانًا في مأزق.” قالها من فوق رأسي المنحني.
“أنا آس—”
“لكن لا بأس.” قاطعني بابتسامة.
“أحيانًا أشعر بالضيق والانزعاج أيضًا.
وكأنك تعبّرين عن تلك المشاعر بدلًا عني…” توقف للحظة،
ثم قال بلطف: “لست غاضبًا.”
كانت طريقته في النطق، وإصراره على المعنى، أعمق بكثير مما توحي به كلماته.
أومأت بخفة. “جلالتك لطيف جدًا معي. أنا ممتنة دومًا.”
“أخبرتك من قبل، أرى في صدقك فضيلة.” قال وهو يتجه إلى مكتبه.
“ولو لم يعجبني، لما اعتبرته كذلك.”
جلس خلف المكتب، وعقد حاجبيه وكأنه تذكّر شيئًا أزعجه، فارتجفت نظارته على أنفه.
“أشعر فقط بالأسف… أنني، ولو للحظة، كنت سيدًا محرجًا لك، حتى شعرتِ بالحاجة للدفاع عني.”
“هذا غير صحيح!” صحت منفعلة.
“الأمر ليس كذلك…” لكن صوتي خذلني، وتوقف في منتصف الطريق.
لم يخطر ببالي قط أن كاسروسيان كان محرجًا أو غير جدير.
سواء قبل أسبوعين أو اليوم، كان غضبي موجّهًا إلى الكونت هيربرت ولسانه الوقح.
ومع ذلك، لم أستطع التعبير عن ذلك.
وفجأة، راودني سؤال: لماذا كنت غاضبة؟
أنا الآن خادمة، ولا يحق لي التهجم على النبلاء.
ومع أنني أعلم ذلك، لم أستطع كبح مشاعري.
بل لم أرغب بكبحها. ليس مرة واحدة فقط، بل مرتين.
هل السبب خبر إردان؟ أم أن كوني أُبلغت بأنني ميتة أثّر في حالتي النفسية؟ ربما.
لكنه ليس تفسيرًا كافيًا.
لو كنت ممن لا يفرّقون بين الصواب والخطأ، لكنت ضربت إردان دون تردد حين جاء.
إذن، هل غضبي نابع من امتناني لكاسروسيان؟
لكن مجرد الامتنان لا يثير هذا الغضب.
حين جاء إردان وقلل من شأن كاسروسيان، شعرت بالغضب من وقاحته، لا من الشفقة.
“هل تحبين جلالته؟”
عندها فقط، ارتدت كلمات كبير الخدم في رأسي كصدى كشف الحقيقة.
…لقد بدأت أحب كاسروسيان.
كما لم أستطع نكران السؤال حين طُرح عليّ، نبتت مشاعري نحوه دون أن أدرك.
ولهذا شعرت بالغضب. أصبحت أراه بوضوح خلف الجدار الشفاف، بعدما كنت عاجزة عن رؤيته.
“اصبري قليلًا.” قال كاسروسيان بابتسامة هادئة.
“لم يتبقَ الكثير على نهاية خدمتك.”
ثم عاد يركّز نظره في الوثائق أمامه.
“…”
ستستمر خدمتي له حتى العثور على جثة التنين.
وقد مضى شهران على اتفاقنا، لذا من المرجّح أن تصل الأخبار قريبًا.
لكن الآن، هذا لا يهم.
عليّ أن أزيل هذا الفهم الخاطئ.
لو حاولت الآن أن أقول إنني لم أعتبره يومًا محرجًا، فستبدو كأنها تبريرات.
لذا، عليّ أن أُثبت ذلك بأفعالي.
أردت أن أُظهر لهذا الرجل، الذي اعتاد الكراهية حتى صارت له درعًا، أن هناك من يمكنه أن يحبه بصدق.
وبينما غرقت في هذه الأفكار، عقدت العزم في داخلي على أن أفعل.
التعليقات لهذا الفصل " 59"