“ماذا تعنين؟” تساءلت إلوديا وهي تشد حاجبيها بقلق بعد أن ورد اسم بريسيلا بشكل غير متوقع.
“سمعت أن الدوقة الكبرى كانت تتعرض للتوبيخ كثيرًا من السيدة بريسيلا.”
اتسعت عينا إلوديا بدهشة عند سماع كلمات رونا المترددة.
كان من المعروف أن إلوديا قد خدمت سابقًا خادمة تحت إمرة بريسيلا، ومع ذلك، فاجأها التلميح.
فمنذ أن أصبحت دوقة كبرى، لم يتجرأ أحد على ذكر تلك الأيام أمامها.
“هل كانت السيدة بريسيلا توبيخ الدوقة الكبرى لصالحها؟ لكي تصبح سيدة نبيلة بهذا الرقي؟”
“عمّ تتحدثين…”
“كنتِ ممتنّة لها، أليس كذلك؟ ولهذا السبب تحاولين أن تتصرفي مثل السيدة بريسيلا؟”
ظهرت الدهشة على وجه إلوديا من كلام رونا الغريب.
“الدوقة الكبرى طيبة جدًا وذات قلب طاهر.” رفعت رونا رأسها مبتسمة ببراءة.
“أنا أؤمن بك! وأؤمن بأنكِ ستجعلينني عظيمة كما جعلتك السيدة بريسيلا!”
اهتزت نظرات إلوديا عند سماع ذلك.
بريسيلا لم تكن تعاملها بتلك القسوة من باب التربية أو النية الحسنة، بل كانت تفعل ذلك بطبعها القاسي وشرّها المجبول فيه.
لكنها إن قالت هذا بصوتٍ عالٍ الآن، فستبدو وكأنها تشوّه سمعة السيدة الراحلة، زوجة المركيز السابقة.
“نعم… فلتظني ذلك.”
تنهدت إلوديا تنهيدة ثقيلة.
كانت مرهقة أصلًا من التحضيرات المتعبة لحفل خلافة اللقب، وكان مجرد الحديث مع خادمة منفردة عبئًا إضافيًا.
فلتستمر رونا في ظنّها الخاطئ، لا بأس.
في الواقع، كنتُ أنوي الحديث مع كبيرة الخادمات عن هذه الفتاة، لكنني نسيت وسط الانشغالات الكثيرة…
قررت إلوديا أن تؤجل أمر استبدال رونا حتى تهدأ الأمور، لكنها ما لبثت أن نسيت تمامًا هذا الحوار.
وكانت ستندم على هذا القرار لاحقًا.
—
“ما الذي تفعلينه؟! قومي بعملك كما يجب!”
صرخة عالية أوقفت حديث إلوديا مع الخيّاطة، فالتفتت لترى رونا وهي تزمجر.
“ارفعيه جيدًا! القماش يلامس الأرض!”
كانت رونا تقفز وسط الغرفة وتصرخ على الخادمات والعمال في حجرة القياس.
“يا لها من خادمة مخلصة.”
ابتسمت السيدة بابتسامة باهتة جعلت وجه إلوديا يحمرّ خجلًا.
من وجهة نظر إلوديا، لم تكن هناك أي أخطاء تستحق كل هذا الصراخ.
ويبدو أن السيدة أيضًا ترى الأمر ذاته، لذا بدا تعليقها وكأنه يسخر من رونا… وربما من إلوديا أيضًا التي تخدمها رونا.
“الدوقة الكبرى قالت إنها ستتبع نهج السيدة بريسيلا بحذافيره! وستعاقب على أصغر الهفوات! هل تريدون أن تتعرضوا للتوبيخ؟!”
لكن خجل إلوديا ما لبث أن تلاشى، إذ صُدمت حقًا من كلمات رونا.
عمّ الصمت الغرفة، والتفتت إليها جميع الأنظار.
“لا… هذا غير صحيح.”
أنكرت إلوديا بهدوء، وقد انكمشت كتفاها كأنها على وشك البكاء.
كان مظهرها الرقيق يجعل الناس عادة يتعاطفون معها تلقائيًا.
فحتى دون أن تشرح، كانوا يتخيلون أنها مظلومة.
وهي بالفعل كانت تُتّهم زورًا الآن.
كيف لهم أن يظنوا أنها تُشبه بريسيلا، تلك المرأة القاسية؟
لكنها كانت واهمة.
فقد ظل التوتر مخيّمًا على الأجواء، ونظرات الشك والحذر لم تتبدّد.
لماذا؟
راودها شعور عارم بالارتباك، ولم تفهم لماذا لم يتدخل أحد للدفاع عنها.
لماذا لا أحد يصدقني؟ لماذا لا يرون أنني مظلومة؟
كان عليهم أن يوبخوا رونا، لا أن يصمتوا!
“آه…”
تجولت نظراتها القلقة في المكان، ثم أدركت الحقيقة المرّة: هذا ليس قصر الدوقية الكبرى…
بل قصر ماركيز فيديليو، المكان الذي كان تحت سيطرة بريسيلا، والمكان الذي ما زال يضمر الكراهية لها.
ظنت أن كل شيء سيتغير بعد رحيل بريسيلا.
عضّت على شفتها السفلى بقوة.
فبسبب الشائعات الخبيثة التي نشرتها ليريبيل عنها بأنها عشيقة، أصبحت إلوديا محط عداء الجميع.
حتى في المواقف الواضحة التي تظهر براءتها، لا أحد يتكلم نيابة عنها.
كل هذا بسبب تلك المرأة… ليريبيل، لا تزال تعذبني حتى بعد رحيلها.
لكن إن أردنا الدقة، فالخطأ لم يكن على ليريبيل وحدها.
بل على رونا أيضًا.
وبشكل أدق، كان خطأ إلوديا نفسها التي تجاهلت تصرفات رونا ولم تصحح لها مفاهيمها.
لكنها كانت مشغولة جدًا، واختارت أن تُحمّل ليريبيل كامل المسؤولية.
وفي تلك اللحظة، كانت رونا تبتسم لها برضا، وكأنها تنتظر مديحًا على ما فعلته.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت رونا لا تتوانى عن ذكر اسم بريسيلا في كل مناسبة:
“هل تريدون أن تضربكم السيدة إلوديا؟ كما كانت السيدة بريسيلا ترفع يدها كلما سنحت لها الفرصة؟ السيدة إلوديا قالت إنها ستتبع خطى السيدة بريسيلا!”
حتى في أبسط الأخطاء.
“آه، آسفة! لا تحبسيني في الإسطبل كما كانت تفعل السيدة بريسيلا!”
عندما ترتكب هي خطأً.
“من الرائع أنكِ ترغبين في أن تصبحي مثل السيدة بريسيلا، أمر لا يجرؤ عليه الأشخاص العاديون، أيتها الدوقة.”
عندما تشعر بالملل.
بدأت إلوديا تفقد صوابها من كثرة تكرار اسم بريسيلا على لسان رونا.
“لقد أخطأت! أرجوك لا تضربيني!”
وكلما حاولت إلوديا أن تصحح لها المفاهيم، كانت رونا تصرخ وتتوسل وكأنها تواجه وحشًا.
هذا يجعلني أبدو وكأنني شخص سيء للغاية…!
وبسبب ذلك، لم تعد إلوديا قادرة على التحدث بسهولة لا مع رونا، ولا مع باقي الخادمات.
“هل سمعتم ما قالته؟”
“لا يُصدّق.
كانت رونا محقة، إنها تمامًا مثل السيدة بريسيلا.”
“سئمت حقًا.
بالكاد تخلصنا من طغيان بريسيلا، لتأتي واحدة مثلها!”
سمعت إلوديا الهمسات من خلفها، ووجهها يزداد كآبة.
كأنني عدت إلى الماضي… إلى أيام كنت فيها خادمة فقط…
كان الأمر كذلك في السابق أيضًا.
عندما كانت بريسيلا تظلمها، كانت تُلام على ذلك من قبل الخادمات الأخريات، وكأنها السبب في إثارة غضب بريسيلا.
لا أحد كان يفهمني حينها، رغم الظلم.
كل ذلك بسبب ليريبيل.
تلك المرأة التي جعلت الناس ينظرون إليها كالعشيقة التي أزاحت السيدة الحقيقية من مكانها.
لو أنها فقط رحلت بهدوء، لما كان كل هذا سيحدث…
لكان الجميع قد دافعوا عني، ولاموا رونا على تجاوزها.
“لا بأس.”
رفعت إلوديا رأسها أخيرًا، وأجبرت نفسها على الابتسام.
منذ أن كانت خادمة، وهي تحاول جاهدة تخطي المحن وحدها.
لم تنجح دائمًا، لكنها كانت تحاول.
طَرق… طَرق…
انفتح الباب قليلًا، وظهرت رونا.
“رونا… هل يمكننا التحدث؟”
نادتها إلوديا وهي تستحضر عزمها الأخير: مواجهة الكارثة التي باتت رونا تجسدها.
ولحسن الحظ، لم يكن في الغرفة أحد سواهما. كانت فرصة مثالية للحديث الصريح.
“نعم، تفضّلي.”
أجابت رونا وهي تتلفّت حولها خلسة.
لا حاجة للتمثيل الآن، فلا جمهور يشاهد العرض.
نظرت إلى إلوديا بعين باردة.
فمسرحية شيطنة إلوديا لا تكتمل دون جمهور.
لكن ما الذي تنوي قوله؟
فكل هذا الوقت، إلوديا لم تكن قادرة على قول شيء حقيقي أثناء تمثيلها للطيبة.
فماذا تملك لتقوله الآن؟
أخفضت رونا رأسها، متظاهرة بالاحترام، فيما كانت عيناها تدوران في كل اتجاه ببرود.
التعليقات لهذا الفصل " 55"