كنتُ أعتزم قريبًا أن أقدّم عرضًا لعقد علاقة صورية مع تيسكان، كجزء من خطتي المحكمة.
ابتسمتُ وأعدتُ الإطار إلى موضعه الأصلي، ثم تمتمتُ:
“يبدو أن الأمر لم يعد ذا جدوى الآن.”
لقد اجتهدتُ طويلًا في دراسة فنون الإتيكيت، كي أتمكّن من خوض تلك العلاقة الشكلية برشاقة وأنا أبدو شريكة أنيقة تليق برجل راقٍ مثل تيسكان، بحيث لا يُثار أي شك بشأن طبيعة علاقتنا.
ولهذا، كان من الحكمة أن أستعدّ سلفًا.
“أن تكون صادقًا، غير متكلّف، ومنسجمًا مع مشاعرك.”
في تلك اللحظة، تردّدت في ذهني كلمات كاسروسيان.
كانت فكرة أن أرتقي يومًا إلى منزلة كاسروسيان أو تيسكان، وأنا التي تضحك ببلاهة أمام بريق الجواهر، تبدو ضربًا من الخيال.
“هل أغريه بالمال؟”
خالجني شعور عابر بخيبة أمل، لكنني سرعان ما توصّلتُ إلى فكرة بدت منسجمة تمامًا مع شخصيتي.
لو أن جثة التنين عُثر عليها داخل أراضي آل رول، لكنتُ قد أصبحت ثرية فعلًا، ولربما حينها تمكّنت من تنفيذ خطتي.
لكن… حتى مع خطة مدروسة، لم أكن أشعر بالرضا.
فما نفع المال إن لم يكن ثمة ضمان بأن تيسكان سيقبل عرضي؟
وحين أتذكّر نظراته يوم صرختُ تشجيعًا لكاسروسيان… فرغم كل خيبته من إيلوديا، لم يبدُ لي أبدًا أنه قد يتقبّل اقتراحي.
ينبغي أن أنتظر حتى يُؤكَّد أن جثة التنين موجودة حقًا هناك.
فليس كمن يضغط الزناد بسلاح فارغ، من يملك ذخيرةً حقيقية.
—
في صباح اليوم التالي…
شهق كاسروسيان دون أن يشعر، حين رآني أتقدّم بخطى واثقة وكتفين مشدودين.
بدا وكأنه يوشك أن يتحدّث، ثم اكتفى بحكّ عنقه بتوتر، ولاذ بالصمت.
لمَ يتصرّف على هذا النحو؟ تساءلتُ طويلًا إن كنتُ قد اقترفت أمرًا غير لائق، لكنني لم أتذكّر شيئًا محددًا.
هل هناك ما يثير الانتباه في هيئتي؟
استعدتُ في ذهني نظرات الخدم والفرسان عند دخولي؛ كانوا يرمقونني بخلسة، وكأن شيئًا ما لفت أنظارهم.
قال كاسروسيان وهو ينظر إليّ:
“إن طلبتِ من كبير الخدم أن يتولّى أمر التخلّص من المجوهرات، فسيقوم بذلك على أكمل وجه.”
توقّفتُ في منتصف الطريق إلى المرآة، ثم استدرتُ إليه بدهشة:
“أتخلّص منها؟”
كيف لي أن أتخلّى عن هدايا نفيسة كهذه؟ هدايا منحني إياها الإمبراطور، ومنقذي كذلك.
كاسروسيان، الذي بدا مضطربًا، رفع يده إلى رأسه ثم أنزلها سريعًا وقد تذكّر أن شعره كان مصففًا سلفًا، وقال بنبرة متراجعة:
“لا بأس، انسِ الأمر.”
نظرتُ إلى المرآة…
مظهري أنيق كالمعتاد، لا شيء غريب سوى تلك الجوهرة الزرقاء المتدلّية على صدري.
كانت آسرة رغم أنها بدت ثقيلة تجرّ ملابسي معها.
كانت خشنة الملمس مقارنة ببروش اللؤلؤ الذي قدّمه لي لويس، لكنني لم أُعر لذلك أهمية.
لم تكن قيمتها في حجمها أو ثمنها، بل في كونها هدية من كاسروسيان، منقذي.
ولم تكن جوهرة واحدة، بل سبع.
سبع جواهر! يمكنني ارتداء واحدة في كل يوم من أيام الأسبوع.
ابتسمتُ بفخر وأنا أعدّ الشاي لجلسة بعد الظهيرة مع كاسروسيان.
لكن… بدا صامتًا على غير عادته.
ظلّ يراقبني بين الحين والآخر دون أن ينبس بكلمة.
وكلّما التقت نظراتنا، كنت أبتسم وأعدّل جلستي لأبدو أكثر امتنانًا.
أردته أن يرى كم أسعدتني هديته.
إلا أنه في كل مرة، كان يشيح بنظره، مكتفيًا بابتسامة باهتة أو شفتين منقبضتين.
تملّكني شعور غريب… خيبة لا أفهم سببها.
تكرّر ذلك مرارًا، إلى أن قاطعنا الطَّرْق على الباب، فدخل كبير الخدم يحمل بين يديه عدة كتب.
“عذرًا على المقاطعة، يا صاحب السمو.”
رمقني بنظرة سريعة، ثم توجّه إلى المكتب ووضع الكتب بعناية، وقال:
“هذه كتالوغات لأشهر صاغة المجوهرات في العاصمة.
ظننتُ أنها قد تكون ذات نفع لسموّك، في ظل انشغالكم الدائم.”
أطرق كاسروسيان برأسه وهو يفرك جبهته.
“لا أشكك بذوق سموّك، لكن الوقت قد لا يسمح لكم بالانتباه إلى كل التفاصيل.”
كانت كلماته واضحة، وعلى الرغم من نبرته المهذبة، إلا أن ما قصده كان جليًّا: البروش الذي أرتديه لا يليق بمقام الإمبراطور.
حدّقتُ بالبروش… أهو بهذا السوء فعلًا؟
شكر كاسروسيان خادمه، ثم غادر الأخير الغرفة بصمت ثقيل.
كنتُ على وشك الاعتذار، لكنني تردّدت.
فلو اعتذرت، لأقريتُ ضمنًا بأن ذوقه رديء.
لم أعرف كيف أتصرف.
لكنه فجأة قال بصوت هادئ:
“إنه يليق بكِ.”
رفعتُ رأسي نحوه بسرعة، لأراه يبتسم لي برقة.
“جميل.”
ثم أردف مبتسمًا على نحو أوسع:
“البروش الذي ترتدينه… وقلبك الذي يعتزّ بهديتي.”
احمرّ وجهي من شدّة الفرح، ولم أستطع كتم ابتسامتي.
وبالمقابل، ابتسم هو أيضًا وكأنه لم يقوَ على مقاومة عدوى سعادتي.
ومنذ ذلك اليوم، واظبتُ على ارتداء البروش يوميًا طوال سبعة عشر يومًا، غير عابئة بنظرات الآخرين.
لكن في اليوم الثامن عشر، سقط فجأة من ثقله.
لحسن الحظ، التقطته قبل أن يلامس الأرض، وقررتُ أن أحتفظ به لأيامٍ خاصة فحسب.
وحين أخبرتُ كاسروسيان بقراري، نظر إليّ لثوانٍ، ثم قال:
“إنه لشرف لي.”
وقد ارتسم على وجهه تعبير فَرِح، رغم دهشته العابرة.
—
في مكانٍ آخر…
“ما الذي تفعلينه الآن؟” سألت إيلوديا وهي تحدّق بدهشة بـ”رونا” التي كانت تحتسي الشاي بهدوء على الأريكة.
كان ذلك في الوقت الذي اقترب فيه موعد مراسم تنصيب إردان كوريث شرعي.
لم يُؤكَّد بعد موت ليريبيل، وكانت إجراءات طلاقها من إردان لا تزال قيد التنفيذ.
ولهذا، لم يكن بمقدور إيلوديا الظهور رسميًا إلى جانب إردان بعد.
ورغم كل ذلك، وبصفتها السيدة المرتقبة لمنزل ماركيز فيديليو، كانت إيلوديا غارقة في الاستعدادات، إذ يقع على عاتقها حضور المراسم واستقبال كبار الضيوف.
أما رونا، خادمتها الخاصة، فقد جلست بأريحية تامة تحتسي الشاي، وكأنها لا تنتمي إلى عالم الخدم.
“ألا تدركين خطأك الآن؟”
سألتها إيلوديا بحدّة، فيما رمشت رونا بعينيها باستغراب: “لا،”
ردّها الواثق ترك إيلوديا عاجزة عن الكلام.
“ما الخطأ الذي ارتكبته هذه المرة؟” سألت رونا بنبرة حزينة، وقد نهضت ببطء.
“أنا آسفة، أبدو وكأنني لا أتقن شيئًا.”
قالت إيلوديا بوجه جامد:
“إذا كنتِ تعلمين أنكِ مخطئة، فعليك التفكير في تصحيح الخطأ، لا الاكتفاء بالاعتذار.”
لم تكن تؤنّبها عبثًا، بل كانت تتحدّث بصفتها مشرفة عليها.
“إن كرّرتِ نفس الخطأ مرة أخرى، فسأضطر إلى معاقبتك.
هذا من أجلك، كي تتحسّني وتصبحي أفضل.”
لكنها أضافت كلمات لم تكن ضرورية، وكأنها تحاول أن تُظهر حرصًا لا قسوة، خشية أن تبدو قاسية.
حينها، همست رونا بصوت خافت، ورأسها منحني بانكسار:
“مثل السيدة بريسيلا…”
التعليقات لهذا الفصل " 54"