كان إردان عازمًا على استرداد إيلوديا من تيسكان، وقد فعل.
تغلّب عليه، وانتصر.
ولم تعد ثمة حاجة لأن يرهق نفسه من أجل دمية باتت ملكًا خالصًا له.
فما دامت تؤدي دورها كما ينبغي، فقد كان إردان مستعدًا لأن يمنحها من انتباهه القدر الكافي.
لتظل ساكنة، طائعة، تستجيب لرغباته.
وإن وجب عليه إشباع تلك الرغبات، فليكن ذلك مع الأجمل، والأكثر خنوعًا، والأسرع امتثالًا، كما كانت إيلوديا حين خدمت بريسيلا فيما مضى.
“المرآة.”
ما إن خرج إردان، حتى مدّت إيلوديا يدها إلى الفراغ، تنتظر أن تُوضع المرآة في راحتها.
غير أن الانتظار طال، دون جدوى.
“المرآة!” هتفت بنبرة آمرة، أكثر حدة.
عندها، سُمع صوت ارتطام شيء بالأرض.
“أ-أنا آسفة.” تمتمت خادمة شابة، كانت قد أُرسلت بديلة عن الخادمة الكبرى، وقد أفلتت المرآة من يدها، وتوسلت بعينين دامعتين.
“هل أصبتِ بأذى؟” سألتها إيلوديا بقلق، وقد بدا عليها الارتباك، ثم أردفت: “أعتذر لأنني رفعت صوتي.”
“ل-لا بأس… المرآة لم تتضرر…” أجابت الخادمة، وهي تنحني لتلتقطها، لكنها توقفت، مترددة.
“لا بأس، أعطني إياها.” قالت إيلوديا بلطف، تبتسم، ثم تناولت المرآة وتأملت وجهها المنعكس فيها.
لم يكن مستغربًا أن يكون إردان ممتعضًا.
عضّت شفتها السفلى، ثم تركتها سريعًا خشية أن تترك أثرًا.
نعم…
من ذا يحب أن يرى المرأة التي يعشقها تذرف دموعها من أجل رجل آخر؟ لذا كان حديثه باردًا.
قررت أن تغض الطرف عن كلماته القاسية، وعن جفاف سلوكه.
لم تكن قلقة من فتور مشاعره، فهي تعرفه أكثر من غيرها؛ إردان بطبعه متعالٍ، بارد، غير مبالٍ، لكنه… كان رقيقًا معها وحدها.
وكان هذا كافيًا لها.
ذلك الاستثناء كان يمنحها شعورًا بالتفرّد، ويجعلها ترى نفسها مميزة.
ولهذا، حين يطلّ جانبه الحقيقي في لحظات كهذه، لم يكن ذلك مؤلمًا بالنسبة لها، بل كان تذكيرًا بجوهره الذي لا يتغير.
“اذهبِ للتسوق… لا، بل اجلبِ التجار إلى هنا.”
عدلت عن رأيها.
لم تعد راغبة في مغادرة القصر لشراء الزيوت والعطور وأدوات الزينة والملابس المغرية من أجل إرضاء إردان… لم تكن مرتاحة للخروج ووجهها على هذا الحال.
“كيف أقوم بذلك؟”
صوت مجاور قطع أفكارها.
أزاحت عينيها عن المرآة ببطء، واستدارت.
كانت هناك خادمة، توحي ملامحها بالحيرة.
“آه، أعتذر.” تمتمت الخادمة، وكتفاها ينكمشان.
“رغم أنني خَدَمت السيدة بريسيلا لسنوات، فإنها لم تطلب من قبل جلب التجار، لذلك لا أعرف ما يُفعل في مثل هذا الموقف.”
“…”
“هل أزعجتكِ؟”
ارتسمت على وجه إيلوديا ابتسامة هادئة.
“لا، لا بأس.
إن كنت تجهلين الطريقة، فاسألي الخادمة الكبرى، وتولّي الأمر.”
“حاضر.” ردت الخادمة بحيوية، ثم انحنت وغادرت المكان.
تنهدت إيلوديا بهدوء وهي تراقبها تبتعد.
أهي إهانة مبطّنة من الخادمة الكبرى؟ أن تُرسل لي خادمة بهذا الجهل؟
قررت أن تحادث الخادمة الكبرى لاحقًا، ثم عادت إلى المرآة.
ما يشغلها الآن… ليس الخادمة، بل إردان.
—
“هااام…”
رونا، إحدى الخادمات، تثاءبت بكسل وهي تتمشى في الحديقة، حتى وصلت إلى ركن مخفي بين الشجيرات الكثيفة.
هناك، تمددت على العشب، متخذة من ذراعها وسادة.
“رونا؟ ما الذي تفعلينه هنا؟” سألها البستاني، برونو، وقد بدا عليه الذهول؛ فهي مكلفة بخدمة الدوقة الكبرى، وها هي تأخذ قيلولة في وضح النهار.
“أتكاسل.” أجابت من دون أن يساورها خجل.
“أ… هل يُسمح لكِ بذلك؟”
سؤاله جعلها تفتح عينيها وتعتدل في جلستها. “سيدي.”
“نعم؟”
“لم يصلني أي خبر من ليريبيل.”
“ربما تكون مشغولة.”
“أعني لا شيء على الإطلاق.
كما لو أنها اختفت فجأة.”
“مستحيل.”
حاول برونو أن يهوّن الأمر عليها بابتسامة، لكن تجاعيد القلق ظلّت مرسومة على جبينها، وها هي تنكمش على نفسها من جديد كروبيان خائف.
“أعرف أنك عنيدة لأنك قلقة عليها، لكن إن ورّطت نفسك في أمر متهوّر، فستُحزن ليريبيل كثيرًا.”
“لا بأس.”
“رونا…”
“التعامل مع من يتظاهرون باللطف سهل… لا بأس.”
هزّ برونو رأسه بأسى، ثم عاد إلى عمله.
هل هي بخير؟
وجه رونا، الذي استلقى على جانبه، اتشح بغشاوة الحيرة.
لم يكن بوسعها تحمّل هذا القلق المتواصل على ليريبيل، التي اختفت منذ أن انتقلت إلى الأرض التي منحها لها إردان.
والموجع أكثر… أنها عاجزة تمامًا، خادمة لا تملك حولًا ولا قوة.
ستكون بخير… لقد صمدت لأربع سنوات تحت سلطة بريسيلا، لا بد أنها بخير.
عضّت رونا شفتيها بعزم.
نعم، بدلًا من الغرق في القلق العقيم… امتلأت عيناها البنيتان بإصرار صلب. عليّ أن أقبض على إيلوديا.
رونا اختارت طوعًا أن تخدم إيلوديا.
كانت تنوي أن تنال انتقامها بيديها من تلك التي كانت أحد أسباب طرد ليريبيل.
وهي تنتظر الفرصة، قررت ألا تبقى ساكنة، فالركود لا يُجدي.
كانت تدرك أن المذنب الأكبر هو إردان، لكنها لم تكن قادرة على الاقتراب منه، فاختارت هدفًا أضعف. ومع ذلك… فهو مذنب أيضًا.
فلتنتظري فقط.
عقدت العزم، وأغمضت عينيها.
وبعد أن نالت قسطًا من الراحة، عادت إلى إيلوديا. وبرغم غيابها لساعات، لم تجد إيلوديا ما تقوله.
“تاهت بي الطريق، لم أعرف الاتجاه جيدًا.
سامحيني على جهلي، يا دوقتي الكبرى النبيلة.”
قالتها ببراعة، فكان صداع إيلوديا منها منذ ذلك اليوم لا يُحتمل.
—
“هل تمارسين الرياضة؟”
فوجئت بالسؤال، فرفعت ركبتيّ المنتصبتين ونظرت إلى كاسروسيان، الذي كان يستند بذقنه إلى أصابع يديه المتشابكة، يراقبني منذ وقت.
“كنت أتدرّب على إلقاء التحية.”
ضحك فجأة، ثم خفض رأسه وكتم ضحكته بسعال خفيف.
“آسف… لكن وضعيتك أشبه بتمرين للساقين.
ولو واصلتها، لأذيتِ ركبتيكِ، فظننت أنه من واجبي أن أعلّق.”
تمرين للساقين؟ عبست، إذ بدا له موقفي كأني أقوم بتمرين سكوات غير متقن!
“هل أبدو غريبة إلى هذا الحد؟” تساءلت وأنا أتصفح صورة توضيحية في كتاب.
“مع صعود برج السحر وازدهار المدن، برزت أهمية القيمة الاقتصادية، مما أدى إلى بروز طبقة نبلاء جديدة من التجار.”
بدلًا من الإجابة، شرع كاسروسيان في الحديث عن موضوع آخر كليًا.
“لهذا، لا يُعير النبلاء المعاصرون كثيرًا من الاهتمام للبروتوكولات.
يرونها إرثًا قديمًا تجاوزه الزمن… باستثناء القلة من ملاك الأراضي القدماء.”
“يعني هذا أنني أحتاج لتعلم القدر الذي يجنبني الانتقاد فقط؟”
ضحك بخفة وقال: “يكفي أن تعرفي ما يمنعك من الوقوع في مواقف محرجة أثناء المناسبات الرسمية.”
أغلقت الكتاب وجلست على الأريكة.
“أنا أغبطكم.”
[اي تحسدهم]
“تغبطيننا؟”
أومأت.
“قدرتكم على التعبير بأناقة حتى في أبسط الأمور.”
أمال رأسه قليلًا وقال: “ليس الأمر كذلك دائمًا.”
بدا في صوته شيء من التردد.
“لا أعلم بشأن الآخرين، لكنني رأيت بعيني أن كل تصرف منك يتسم بالهيبة والرقي… وينطبق هذا أيضًا على الدوق تيسكان.”
عند ذكر تيسكان، تلون وجه كاسروسيان باحمرار خفيف، ثم قطب حاجبيه في انزعاج.
التعليقات لهذا الفصل " 52"