“جلالتك… لم تخدعني بنيّة الإيذاء كما فعل إردان.”
رفع كاسروسيان رأسه ببطء عند سماعه كلماتي، وقد كان يُردد في صمت كلمة “لماذا” مرارًا وتكرارًا.
“لو لم أُصدر الأمر لإردان بمنح مقاطعة بيتـرول، لما حاول إيذاء البارونة هناك.”
“لكنه كان سيفعلها بطريقة أخرى، في مكان آخر.”
فإردان، الذي سبق له أن حاول قتلي ذات مرة، لم يكن ليتردد في تكرار الأمر حتى دون تحريض من كاسروسيان.
آنذاك لم آخذ الأمر على محمل الجد، لكن معرفتي الحالية بطبيعته تؤكد أنه كان قادراً على ارتكاب ما هو أسوأ.
“هذا… صحيح.” أقرّ كاسروسيان، عاجزًا عن الدفاع عن دناءة إردان رغم تعاطفه الظاهر معي.
بدا أنه يعرفه كما أعرفه أنا.
“لا أحمّلك مسؤولية ما حدث، جلالتك.
المذنب الحقيقي هو إردان.”
نظر إليّ كاسروسيان بشعره الفوضوي وملامحه المرتبكة.
“ولو كنتَ قد لمحّت لي بأي شيء، وكان إردان قد تنبّه، لما ظفرت بشيء من تلك الأرض.
لذا، أفهم لماذا لم تمنحني إشارة.
ولو كنت مكانك، لفعلت الشيء ذاته.”
“…”
“بل إن جلالتك أرسل سيد البرج لإنقاذي من تهديد إردان، تحسّبًا لأي طارئ.”
“…”
“محاولة إردان قتلي هي خطيئته وحده.
لا داعي لشعوركم بالأسف يا جلالة الإمبراطور.”
كان كاسروسيان يصغي لصمتي بصمت، وقد مرّر أصابعه بين خصلات شعره في حركة لاواعية، وكأنّه لا يدرك أن شعره المتناثر صار خارج السيطرة تمامًا.
“وكذلك الاستخفاف بي…
لقد حال دون تحقيق إردان لأي من مآربه.”
فلو لم أُصرّ على إخفاء نفسي، لما اضطر كاسروسيان إلى التستّر على ما حدث في بيتـرول.
بل كنت ممتنّة له… لشخصه الذي خفض نفسه أمام ذلك الوغد ليحمني.
“وفوق كل هذا، جلالتك قد اعتذر لي عن الأمر، ووعدتني بالتعويض.
وإن وُجد في نفسي شيء من الضيق، فقد زال آنذاك.”
“…أشكر لطفك في التفكير بهذه الطريقة.” قالها بصوتٍ منخفض يحمل في نبرته ارتياحًا خافتًا.
…!
ذلك الصوت… أشعر أنني سمعته من قبل.
تجاهلت شعور الـ”ديجا فو” المفاجئ وتابعت حديثي: “لكن… هناك أمر يفاجئني.”
“يفاجئك؟”
“ألم تخدعني لأنك لم تكترث إن كرهتك؟”
ارتجف كاسروسيان من وقع سؤالي.
“لو كان الثمن هو المضي قدمًا دون ضوضاء، ودون تعريض نفسك للخطر، مقابل كراهية شخص لا تعرفه… ألم يكن ذلك لا يهمّك أصلًا؟”
“…هل استشعرتِ هذا؟”
“بعض الشيء.”
بعد استماعي لما دار بينه وبين إردان، تأكدت أنه اعتاد اتباع مثل هذه الأساليب.
بدا جليًا أنه لا يكترث لطريقة نظر الآخرين إليه طالما بلغ هدفه.
ولهذا استغربت شعوره بالذنب تجاهي.
ما الذي تغيّر؟ لماذا يشعر بالذنب الآن، رغم اعتياده المكر والتخطيط البارد؟
“…”
غطّى كاسروسيان فمه بيده، وقد بان عليه الاضطراب كمن لا يعرف الجواب.
“لا ألومك، جلالتك.
الأمر فقط… مثير للاستغراب.”
عند سماعي كلماتي، أنزل يده ببطء، لكن الارتباك ما زال يكسو ملامحه.
“بصراحة، كنت خائفة من أن تطعنني في ظهري بكل بساطة وتستولي على بيتـرول، لأنني شعرت أنك قادر على ذلك.”
“لم أكن لأفعل أمرًا كهذا.”
ضحك كاسروسيان خفيفًا، ولأول مرة بدا وكأنه ارتاح.
“مطلقًا.”
بل حلّت نبرة من العزم في صوته، كأنها تعهّد.
“حسنًا.” ابتسمت ابتسامة خفيفة.
شعرت بالصدق في نبرته، واطمأن قلبي.
“…”
ظلّ كاسروسيان يحدّق في وجهي المبتسم طويلًا، كأنه مأخوذ بشيء.
“شعرك فوضوي، جلالتك.
إلى حدٍّ كبير.”
انتفض فجأة، وراح يعبث بشعره محاولًا إصلاحه بكفّيه المرتبكتين.
“هناك خصلة بارزة من الجانب.”
“هنا؟”
“لا، بجانبها، لا، خلفها…”
كان من الأسهل أن أصلحها بنفسي بدلًا من شرحها.
“عذرًا.” ترددت للحظة، ثم مدّت يدي لتسوية خصلة شعره الجانبية.
“يبدو أفضل هكذا، مع بعض الفوضى، من التسريحة المثالية التي تعتمدها عادة.” تمتمتُ وأنا أسحب يدي.
لم أقصد قول ذلك… لكن الحقيقة أن تسريحة الـ2:8 المنمّقة لا تليق بأي أحد بسهولة، ولا حتى بكاسروسيان.
وملامحه القوية بدا أنها تتناغم أكثر مع الشكل الطبيعي قليلًا…
آه…
“آسفة، لم يكن من اللائق أن أقول ذلك.” اعتذرت حين لاحظت الخجل الذي غطى ملامحه خلف نظارته.
تجاوزتُ حدودي.
“لا بأس.”
“…؟”
عندما هممتُ بإدارة وجهي، فتح فمه ثم أغلقه بضع مرات قبل أن يقول:
“بإمكانك قول ما تشائين… في أي وقت.” قالها وهو يرمق صورة مؤطرة معلقة على الجدار.
كلماته بدت بسيطة، لكنها حملت في طيّاتها شيئًا أعمق… كأنه يمنحني إذنًا ضمنيًا بالاقتراب.
…أتراني أتوهّم؟
—
جلس كاسروسيان على مقعده مطولًا بعد عودته إلى الغرفة.
[ “ألم تخدعني لأنك لم تكترث إن كرهتك؟”
“لو كان الثمن هو المضي قدمًا دون ضوضاء مقابل كراهية شخص لا تعرفه، ألم يكن ذلك لا يهمّك؟”]
ظلّ يتأمل في كلمات ليريبيل…
لقد كانت محقّة.
كان ذلك الأسلوب هو الأكثر ألفة وسهولة بالنسبة له.
استعاد كاسروسيان ذكريات لقائه الأول بليريبيل، حين هاجمها البارون دينيس.
كان قد أعدّ لها بعض الفخاخ، وكان بوسعه أن يمنع البارون من دخول غرفتها…
أن يحميها بصمت من تهديدات إردان دون تنبيهها.
لكنه لم يفعل.
راقب بصمت حتى رأت ليريبيل البارون بعينيها، ثم أخبرها لاحقًا أن إردان هو من دبّر الأمر.
لم يكن ذلك كل شيء.
لقد قتل البارون دينيس وأخفى جثته، وطمس الأدلة التي تدين إردان بمحاولة قتلها.
بل حتى حين حاولت الهرب خفية من قصر الماركيز، جعلها تغفو دون علمها، ليمنعها من الرحيل.
أراد أن تتوجّس من إردان، وأن تبحث عن حماية، وتطلبها من العائلة الإمبراطورية… منه هو تحديدًا.
لم تكن لديه مصلحة شخصية في صراعها مع إردان، لكنه صنع لنفسه مبررًا للتدخل.
بعبارة أخرى، وإن كان تدخّله جاء بطلب من بريسيلا، إلا أنه لم يتردد في ترتيب الأمور لتمكين نفسه من التصرّف بحرية أكبر.
وقتها، ظنّ أن الحظ ابتسم له بفضل حماقات إردان.
وكما قالت ليريبيل…
لم يكن يشعر بالذنب، ولم تكن تعنيه مشاعرها أصلًا.
ومع ذلك… لماذا أشعر الآن بالذنب؟
خفض كاسروسيان عينيه، وأخذ يتفحّص ما حوله.
مدّ يده نحو درج المكتب وأخرجه.
كانت هناك رزمة أوراق لا بأس بسماكتها.
[إلى الإمبراطور العزيز والمبجّل]
كانت تلك رسالة أرسلتها إليه ليريبيل في وقت سابق.
تسعٌ وعشرون صفحة، كل سطرٍ فيها يغمره الامتنان الخالص.
“هل كان ذلك… من تلك اللحظة؟” تمتم كاسروسيان بصوت خافت.
منذ تسلّمه تلك الرسالة الطويلة، التي تقطر امتنانًا صادقًا ونقيًا، شعر وكأن شوكة صغيرة قد انغرست في حلقه.
شوكة لا تؤلمه بشدة، لكنها تزعجه في كل مرة يحاول ابتلاع صمته.
التعليقات لهذا الفصل " 49"