“هل بدوتُ مرحة أكثر مما ينبغي؟ لعل الأجدر بي أن أتصرف بجدية لأبدو مخلصة.
لكنني اكتفيت بهزّ كتفي بلا اكتراث، ودخلت غرفتي.”
حتى دون تحذير رئيس الخدم، لم تكن لديّ أدنى نية في إفشاء الحديث الذي جرى.
كنت أعلم تمامًا أنه مما يجب أن يُطوى في طيّ الكتمان.
إلا أن مشاعر كاسروسيان تجاهه بدت واضحة، تتجلّى في توبيخه له نهارًا، ونصحه لي ليلًا.
لطالما ظننت أن كاسروسيان، بكل ما يُعرف عنه من ضعف وعجز، لا ينال احترامًا يُذكر بين خَدَم القصر الإمبراطوري.
“…”
بعد أن أنهيت استحمامي المنعش، نزعت الإطار المثبّت على الجدار، وتمعنت في خارطة العلاقات التي تضم صورتي إردان وإيلوديا.
“ترى، هل حدث أمر ما شقّ العلاقة بينهما؟” تساءلت في داخلي بينما كنت أجفف شعري المبلّل بالمنشفة.
ذاك هو إردان، الذي تنازل مرتين عن إقطاعيته من أجل إيلوديا، وهو ذاته من حاول قتلي مرتين لأجلها… لكنه الآن يؤجّل كل ما يمتّ لها بصلة؟ هذا مثير للريبة.
“لكن، لو كانت العلاقة منقطعة تمامًا، لما ذُكرت من الأساس.”
أمعنت النظر في وجه إيلوديا المبتسم في الصورة.
كان ثمة شيء مبهم.
سرّ خفي يدفع إردان لتأجيل كل ما يتعلق بها دون أن يقطع صلته بها كليًا.
“هل يخشى جلالة الملك تيسكان أكثر مما يخشاني؟”
تذكرت كلمات إردان، وتكدّرت نظرتي قليلًا.
وفجأة…
“…!”
طرقات مباغتة على الباب جعلتني أعيد الإطار سريعًا إلى مكانه على الجدار.
“من الطارق؟”
“أنا.”
بمجرد أن سمعت صوته، فتحت الباب على عجل، لأجده واقفًا أمامي.
“هل تحتاج إلى شيء؟”
كنت على وشك مغادرة الغرفة، لكنه هزّ رأسه نافيًا.
“هل لي ببضع دقائق؟”
ما الذي قد يدفع كاسروسيان لزيارتي في هذا الوقت المتأخر؟
“بالطبع، تفضل بالدخول.”
لم يكن لدي سبب لرفض زيارة رئيسي في العمل.
كما أنني ما زلت أُقلّب في ذهني حديث إردان المبتور.
أملت جسدي جانبًا لأفسح له الطريق.
“الأمر ليس ذا شأن كبير.”
سار كاسروسيان نحو الطاولة، وهناك لاحظت أنه يحمل كتبًا تحت ذراعه.
“بدا لي أن كتاب الإتيكيت الذي تقرئينه، يا بارونة، معقّد قليلًا” قال وهو يضع الكتب على الطاولة.
“أخي…
اعتاد قراءة هذا الكتاب التمهيدي في صغره.
قد يبدو مستهلكًا، لكن بما أنه من مقتنيات جلالته شخصيًا، رأيت أنه أجدى نفعًا من أي كتاب يباع في السوق.”
حين التفت إليّ بعد أن وضع الكتب، بدا عليه شيء من التردد رغم نظارته السميكة التي حجبت ملامحه.
كتمت دهشتي وقلت:
“شكرًا… لك.”
شكرته، وإن لم أفهم تمامًا ما الذي يدفعه لذلك.
هل لاحظ كاسروسيان مشقتي مع الكتاب لدرجة جعلته يتصرف من تلقاء نفسه؟ بل ويجلب لي كتبًا قرأها الإمبراطور نفسه؟
“إنه لشرف عظيم أن أطالع ما طالعته جلالتك.”
لكنني لم أشأ سؤاله عن سبب اهتمامه بي.
ليس من اللائق مساءلة من أبدى هذه العناية.
ابتسم كاسروسيان بخفة، وفي ابتسامته شيء من الارتياح.
“أفكر الآن…
لقد مضى وقت طويل على وجودك في
القصر، لكنها المرة الأولى التي أدخل فيها غرفتك،”
قال وهو يلقي نظرة متفحصة.
“هل هناك ما يزعجك؟”
لكنه لم يُكمل سؤاله، إذ تجمّد بصره فجأة عند نقطة معيّنة في الغرفة.
“…؟”
نظرت إلى حيث يحدّق، وإذا بي أُطلق شهقة صغيرة.
كان يُحدّق في الرسالة القصيرة منه، تلك التي وضعتها في إطار فاخر على الحائط.
“ه-هذا، جلالتك…”
تلعثمتُ، ووجهي قد شحب، بينما كان يتقدّم نحو الإطار ويقف أمامه.
“ذلك…” أسرعت بخطاي نحوه، أحاول في رأسي استحضار مبرر معقول.
فليس الاحتفاظ بالرسالة ما يثير الحرج، بل كونها ممزقة، جُمعت على عجل وأعيد تركيبها بطريقة فوضوية.
“هل هذه هي الرسالة التي أرسلتها إلى البارونة؟”
أطرقت برأسي بعد لحظة صمت وقلت بصوت خافت:
“نعم…”
لم يخطر ببالي قط أن يدخل أحد غرفتي.
بل لم يحدث قط.
وإن حدث، كنت سأجد عذرًا.
لكن…
أمام كاتب الرسالة نفسه، لا أملك إلا الصدق.
كان خطأً أن أفترض أنه لن يزور غرفتي أبدًا.
“…”
رفعت رأسي قليلًا لأنظر إلى ملامحه، فرأيته يتأمل الرسالة الممزقة بإمعان، وتعبيرات التردد تغلّف وجهه.
“أنا آسفة…”
نظر إليّ كاسروسيان.
“كنت أنوي الحفاظ عليها بعناية… أردت أن أجعلها إرثًا تتناقله العائلة…”
لكن حيرته ازدادت.
“حين وصلت إلى مقاطعة بيترو، غضبت… ظننت أنك خدعتني بالتعاون مع إردان… لكنني أدركت الآن أنني كنت مخطئة.”
“…”
“لذلك أبقيت الرسالة على هذا الشكل، كنوع من التكفير عن خطئي.
أرجوك، لا تغضب.”
لقد علقتها لأخفي أثر انتقامي، لكنها كانت أيضًا تذكارًا ثمينًا.
شعرت بالذنب لأنني لعنت رجلًا حاول إنقاذي.
ولهذا جمعت كل شظايا الرسالة، ثم قررت الاحتفاظ بها بشكل لائق، فأحطتها بإطار.
“…”
رغم شرحي، ظلّ كاسروسيان صامتًا، الشكّ والحيرة جاثمين على قسمات وجهه.
“لماذا؟”
همس بها أخيرًا، كأنها تنهيدة خرجت من أعماقه، لا مجرد سؤال.
“لماذا جلالتك تسأل؟”
“لماذا ترغبين بالاحتفاظ بشيء كهذا؟”
“بشيء كهذا؟” تكررت كلماته في ذهني، وكأن رسالته لا تساوي شيئًا.
“لأني ممتنة.”
“ممتنة؟”
أومأت برأسي بهدوء.
“جلالتك لم تتخلّ عني حين حاصرني إردان.
بل وقفت في صفي.”
“لكنني، كما قلت آنذاك، فعلت ذلك من أجل الأسرة الإمبراطورية…”
“نعم؟”
توقّف فجأة، وكأن خاطرًا غريبًا انتزع كلماته، فصمت.
“منذ البداية، كان الهدف هو ضم إقليم بيترو.”
ثم استأنف.
“لكن في تلك اللحظة، كنت ممتنة حقًا.”
لقد لبّى ندائي فورًا حين استغثت.
ووقف إلى جانبي حين كنت أرتعد خوفًا من أن أكون الهدف التالي لإردان.
مهما كانت دوافعه، ما فعله آنذاك كان عونًا لا يُنسى.
وكلما عدت بذاكرتي لتلك اللحظة، لا أشعر إلا بالامتنان.
“آه…”
ومع ذلك، هز كاسروسيان رأسه ببطء، وشَعره المصقول لم يزل مكانه، وكأنه لا يستطيع استيعاب مشاعري.
“لماذا لا تكرهينني، يا بارونة؟”
رمشت بدهشة أمام كلماته الغريبة.
“لماذا أكره جلالتك؟”
رغم عدسات نظارته، أحسست أنه لم يفهم جوابي تمامًا، فظل يرمش كمن يبحث عن تفسير.
“لقد خدعتكِ، أليس كذلك؟ ثم سخرت منكِ أمام إردان أيضًا.”
قالها كاسروسيان وهو يتبادل النظرات معي من خلف زجاج عدسته المعتم.
“وماذا في ذلك؟”
“ماذا تعنين بـ(وماذا في ذلك)؟”
مرة أخرى، لم نفهم بعضنا.
انعقدت جبهتي، إذ خطرت لي فكرة مفاجئة…
هل اهتمامه بي نابع من شعورٍ بالذنب؟ هل يظن أنني أُكنّ له الكراهية بسبب ما فعل؟
التعليقات لهذا الفصل " 48"