نشر الجنود حول أراضي بيتْرول من قِبل كاسروسيان لم يكن سوى غطاء.
الغاية الحقيقية كانت إخفاء أمر إرسال عدد من سحرة برج السحر إلى تلك الأراضي للبحث عن جثة التنين، على خلاف ما أخبر به إيردان.
لو كان إيردان قد أرسل أحدًا للتحقّق من موتي، كما فعل الآن، لانكشفت الحقيقة.
لذا فذلك التحرك لم يكن سوى وسيلة لمنع إيردان من الاقتراب.
قال كاسروسيان وهو يميل برأسه مستغربًا:
“أتراك قطعت كل تلك المسافة من أجل أمر كهذا؟”
ثم أضاف:
“الأرض معروفة بأنها ملكك.
لو ادّعوا أنهم جاءوا بأمر منك، لفتحت لهم الأبواب فورًا.”
تنهدت لأكتم ضحكة كادت تفلت مني.
لو تصرف إيردان وفق اقتراح كاسروسيان، لكان الأمر قد حُلّ ببساطة.
لكنه جاء بنفسه، فقط لأن تدخّلي أغضبه.
كان واضحًا أنّ مجيئه لا يحمل غاية سوى الشكوى.
يا لصغارة نفسه التي يصعب حتى النظر إليها.
ومع ذلك، فقد ساعدني هذا الصغر في إخفاء حقيقة نجاتي وكل ما يجري في أراضي بيتْرول.
قال كاسروسيان، واضعًا يده على ذقنه:
“أبلغ بك الحنق من زوجتك السابقة إلى هذا الحدّ، حتى عجزت عن اتخاذ أبسط قرار؟ لم أتوقع أنك ما زلت تهتم بتلك المرأة إلى هذا الحد.”
لم ينطق إيردان بكلمة.
بدا الغضب عليه واضحًا، إذ لامسه كاسروسيان في أكثر نقاطه هشاشة.
تابع كاسروسيان بنبرة ساخرة:
“ثم حتى لو تمكنت تلك المرأة من النجاة وفضح الأمر، فهل سيلحقك ضرر حقًا؟ لا حاجة لكل هذا التأكد.”
ثم هزّ رأسه كما لو أن الموضوع تافه، وقال بسخرية باردة:
“سأبلغ جنودي.
أعد إرسال رجالك.
أو، لأوفر عليك عناء ذلك، سأرسل رجالي للتحقّق.”
لكن إيردان ردّ بصوت مكبوت قبل أن يُكمل كاسروسيان:
“لا داعي لذلك.
أردت فقط التأكد مما إذا كان جلالت قد غيّر رأيه.
لا حاجة للمبالغة.”
ضحك كاسروسيان ضحكة قصيرة:
“حتى لو نُعتُّ بالضعف، فلست غبيًّا بما يكفي لأعاديك.
لا تقلق.”
عندها عاد صوت إيردان المتعالي:
“هذا يطمئنني.”
قال كاسروسيان:
“سأُرسل رجالي وأوافيك بما يجدونه.”
ردّ إيردان بحدة:
“قلت لا داعي.”
تساءل كاسروسيان:
“أتراك واثقًا من قرارك؟”
فأجاب إيردان ببرود:
“نعم.
وإن خرجت تلك المرأة حيّة، فسأقتلها مجددًا.”
عندها، ارتسمت ابتسامة بطيئة على شفتي كاسروسيان:
“بالطبع، فذلك بالنسبة إليك أسهل من تناول الطعام.”
كنت أراقب كيف يلهو كاسروسيان بإيردان كدمية
بين أصابعه، مُتقنًا تحريك خيوط غروره بما يخدمه. بدا واضحًا أنه يفهم طبيعة إيردان المتعجرفة ويستغلها ببراعة.
وبهذا، سيصرف نظره عن أراضي بيتْرول — وعنّي — لبعض الوقت، على الأقل في الظاهر، وإن كانت نواياه الحقيقية غير معروفة.
فلو أصرّ على ملاحقتي، لظنه الناس جبانًا يخاف امرأة مثلي.
سأل إيردان أخيرًا، وكأنه تذكر موضوعًا هامشيًّا:
“وماذا عن إيلوديا؟”
حولت نظري من كاسروسيان إلى مؤخرة رأس إيردان، مُستغربة أنه لم يسأل عن إيلوديا إلا بعد إنهاء شؤونه الخاصة.
ردّ كاسروسيان بلا مبالاة:
“لم يكن هناك خيار آخر.
الدوق الأكبر تصرّف بحزم.”
ضحك إيردان بسخرية:
“أيعني هذا أن جلالتك تخاف من تيسكان أكثر مما تخاف مني؟”
عند هذا السؤال المتهكم، بدا التوتر جليًا على وجوه الخدم الواقفين جواري.
ردّ كاسروسيان بلا اكتراث:
“تمامًا كما تفترس الحيتان بعضها، نشعر نحن بالاختناق وسطها.
ولو سألتني عمن أخشاه، فالإجابة هي: الدوق الأكبر.”
ضحك إيردان ضحكة غير مصدقة، تحمل نبرة استنكار: “أتجرؤ؟”
قال كاسروسيان:
“لا مفرّ من ذلك.
أسرة الدوق الأكبر على ارتباط وثيق بالأسرة الحاكمة سياسيًا ودمويًا.
بينما أنت، تلازم أراضيك، أما هو، فنشط وسط النبلاء.”
قال إيردان متضايقًا:
“يبدو أنني سأضطر لخوض غمار السياسة، فقط بدافع الغيظ.”
غطيت فمي بكفي لأكتم الضحكة التي تسللت إلى شفتي.
أتظن أنك تصلح لذلك؟ يا لك من أحمق!
تابع كاسروسيان:
“ثم، لو كان الدوق الأكبر تافهًا كفاية ليقيم الدنيا لأجل زلة زوجته، لكنت في مأزق.
وأنا لا أحب التعامل مع الأمور المزعجة.”
ردّ إيردان بجفاف:
“بالطبع.”
قال كاسروسيان وهو ينقر لسانه:
“أنت تدرك ذلك جيدًا.
ظننت أنك رجل سيكتفي بالسخرية من حماقات الدوق لا أن يُقلقني.”
ردّ إيردان بهدوء:
“هممم…”
فقال كاسروسيان بنبرة خفيفة:
“إن كان ظني خاطئًا، فلا حول لي ولا قوة.”
رفع إيردان فنجانه وتناول رشفة:
“هذه الأيام، أجد صعوبة في التعامل مع غباء مرؤوسيّ.”
تطلعت إلى مؤخرة رأسه بدهشة.
هل يعقل أن يكون هناك أحد أكثر غباءً منك في المركيزية؟ حتى أولئك التابعين الذين سرقوا المال أذكى منك.
لقد نجحوا في خداعك، أليس كذلك؟
أكمل بتمتمة متذمرة:
“وها هو حتى من هم فوقي يتصرفون على هذا النحو.”
قال كاسروسيان بهدوء:
“معذرة على ذلك.”
نهض إيردان، واضعًا فنجانه:
“انسَ الأمر.
لا طائل من الكلام أكثر.”
“شكرًا لتفهمك.”
تنهد إيردان بملل، ثم دار على عقبيه:
“سأرحل إذن.”
يا لك من أحمق يا إيردان.
لقد سيّرك كاسروسيان كما يشاء منذ البداية.
فانظر لنفسك الآن، ماذا حققت؟ أهذا ما تريده؟ فقط الحفاظ على كبريائك الأجوف؟
كما خططت تمامًا، ظللت بين صفوف الخدم، رأسي منخفض، غير أنني تابعت إيردان بنظري وهو يبتعد نحو الباب.
مرّ من جانبي ببطء، دون أن يلتفت، دون حتى أن يشعر بوجودي.
كما هو متوقع، لم يعرفني.
لم يخطر بباله أصلًا أن من بين هؤلاء الخدم الحقيرين يقف شخص يعرفه.
لم أشعر بالغضب.
بل رغبت في الضحك.
لقد كان حضوري هنا مجديًا.
الآن، أدركت تمامًا مدى حمق إيردان، والأهم، كيف أُحسن استغلال هذا الحمق المتغطرس.
ويبدو أنني التقطت خيطًا جديدًا غير متوقّع أيضًا.
شعرت لوهلة بأن كاسروسيان يرمقني بنظرة، لكن مع نظاراته السميكة المعتمة، لم أكن واثقة تمامًا.
—
في وقت متأخر من المساء، وبينما كنت على وشك العودة إلى غرفتي بعد تسليم نوبتي لخادمٍ آخر، استوقفني رئيس المراسم.
قال بصرامة، وبنظرة قاسية:
“من يعمل في القصر الإمبراطوري، عليه أن يخرس.”
من أول عبارة، عرفت سبب توقيفه لي.
لقد كان ذلك بسبب الحوار بين كاسروسيان وإيردان. فموظفو القصر المعروفون لا حاجة لتحذيرهم، أما الخدم الجدد القادمين عبر العلاقات، فلا بدّ من تنبيههم.
أجبته فورًا:
“فهمت. “
رمش بعينيه قليلاً، كما لو لم يتوقع ردّي السريع.
قال بلهجة جادّة:
“قديمًا، كان يُقطع لسان الخادم ويصمّ سمعه ليعمل هنا.
ما يعني أنك، مهما كان سبب وجودك، يجب أن تغلق فمك وتغض سمعك عمّا يدور في أروقة القصر.”
أومأت بإصرار:
“مفهوم، تمامًا.”
لكن يبدو أن إجابتي لم ترق له، إذ ازدادت التجاعيد القلقة على وجهه.
قال محذرًا:
“إن تسرّب ما جرى اليوم، فسيُعاقَب كل من كان حاضرًا في تلك الغرفة.”
أجبت بصوت أعلى هذه المرة:
“نعم!”
لكنه لم يبدُ راضيًا رغم ذلك.
زفر بغيظ، وهزّ رأسه وهو يستدير مبتعدًا.
ثم تمتم بصوت خافت، ظنًّا منه أنني لن أسمع:
“ماذا أفعل به؟ لمَ جلبه جلالته أصلًا؟…”
التعليقات لهذا الفصل " 47"