“جلالتك.”
“هممم؟”
“هل أزعجتك تصرّفاتي؟”
ما إن نطقتُ بسؤالي، حتى ارتفع حاجب كاسروسيان باستغراب رصين.
“كنت أتساءل، هل توليني كل هذا القدر من الانتباه لأنني أُثير ضيقك بطريقةٍ ما؟”
لم أستطع أن أجد تفسيرًا آخر لعنايته بي.
“إن كان الأمر كذلك، فسأحرص على الانزواء والاقتصار على شؤوني.”
لم يكن في نيّتي أن أُثقل عليه، بل كنت أطمح لردّ جميله، لا أن أكون عبئًا يؤرقه.
“لا، أبدًا.”
قالها كاسروسيان بسرعة، بنبرة تنم عن توتر خفي وإنكار جلي.
“فقط…”
صمتُّ مترقبة أن يُكمل.
“فقط…” مرر يده على جبينه، ونظر إليّ بتردد.
“أنتِ تعلمين…”
وقبل أن يتم عبارته التي بدا كأنه يناضل لإخراجها، انبعث صوت طرقٍ خافت على الباب.
التفتُّ بسرعة إلى الساعة؛ لم يكن وقت تسليم الوثائق، ولا موعد الوجبات، ولا وقت خروج كاسروسيان لمهامه الخارجية.
“…”
وحين أعَدْت بصري إليه، رأيته يزيح الأوراق التي كان يتصفحها في عجالة.
طرقٌ ثانٍ.
“جلالتك، إنه رئيس الخدم.”
ثم تكرّر الطرق.
“قولي له إنني نائم.” قال كاسروسيان وهو يتكئ إلى الوراء متصنّعًا النوم.
فتحتُ الباب بحذر وهمست:
“أعتذر، كنت أتحرّك بخفة كي لا أوقظ جلالته.”
دخل رئيس الخدم بخطى واثقة، وما إن وقعت عيناه على كاسروسيان المستلقي، حتى التفت إليّ بنظرة حادة اخترقتني كالسهم.
“…!”
وسرعان ما قبض على ذراعي وجذبني إلى الخارج.
“ما الذي—”
“اخفضي صوتك.
جلالته نائم، كيف تجرئين على رفع نبرتك هكذا؟”
قالها بصوت خفيض مليء باللوم.
“وبوصفك خادمة، ألم يكن من واجبك أن تُرْشديه إلى فراشه بدلًا من تركه ينام في وضع غير مريح؟”
أردت أن أجيبه: لكنه يتظاهر بالنوم فقط…
“أدرك أن من الصعب توقّع الكثير من خادمة تجهل أبسط قواعد الإتيكيت، لكن أليس لديك شيء من الفطنة؟ ألم يخطر ببالك أن تغطيه؟ ماذا لو أصابه البرد؟”
إنه يتظاهر بالنوم ليُخفي عنك انشغاله بالعمل…
وبلحظة، أصبحتُ أمامه خادمة لا تفقه شيئًا في الذوق أو السلوك.
“أنا آسفة.” تمتمتُ بانكسار، حريصة على ألا أفشي السرّ الذي حرص كاسروسيان على كتمانه.
“خذي هذه، وهذه، وتلك.”
راح يكدّس في ذراعي بطانيات متفاوتة السماكة، وعيناه ترمقانني باشمئزاز واضح.
“كان الأجدر أن أتكفّل أنا شخصيًا برعاية جلالته، لكن لا أعلم ما الذي يدفعه للاحتفاظ بشخص غبي بجانبه.” تمتم بغضب مكتوم.
آسفة، لأنني غبية…
حين كنت أعمل تحت إمرة بريسيلا، كان كبير الخدم يراني عبئًا ماليًا، وها هو رئيس الخدم الحالي يراني حمقاء عاجزة.
ربما وُلدتُ فعلًا كي أُزدرى من رؤسائي.
لكن، كما حدث مع كبير خدم بريسيلا، لم أشعر بالمرارة.
أجل، أنا خادمة لا تُجيد أصول اللياقة، ومع ذلك، شعرتُ بإخلاصه الصادق تجاه كاسروسيان.
“عُودي فورًا للاعتناء بجلالته.”
“آه، حسنًا.
لكن، ما الأمر؟”
“حين يستفيق، بلّغيه أن هناك زائرًا.”
“ومن يكون هذا الزائر؟”
توقف لبرهة عند سؤالي، ثم أجاب: “اللورد فيديليو.”
وبتلك الكلمات، دفعني إلى الداخل وأغلق الباب خلفي.
وهكذا، أمكنني إخفاء ذهولي الذي ارتسم على ملامحي.
“كنت أعلم أنه سيأتي عاجلًا أم آجلًا.”
تمالك كاسروسيان نفسه واستقام في جلسته.
“كنت تعلم؟”
سألته بدهشة، ليشبك أصابعه تحت ذقنه ويحدق بي بتركيز: “هل ترغبين بمرافقتي؟”
ترددت.
لم تكن هناك حاجة لظهوري أمام إردان ما دمت مختبئة.
لكن…
“نعم.” خرجت مني الكلمة على غير ما أردت.
لو كان في الأمر خطر، لما عرض عليّ مرافقته.
لا بد أنه يملك خطة تحول دون تعرّف إردان إليّ.
كنت واثقة أن لعرضه مبررًا وجيهًا.
“سنغادر بعد ساعة.
بما أنني تظاهرت بالنوم.”
قالها مبتسمًا بخفة، وعاد ليتصفح أوراقه.
“آه، لكن…
ألم تكن على وشك قول شيء قبل أن يُقاطعنا الطرق؟”
تلبّك قليلًا، ثم رفع الأوراق وقال: “لا شيء يستحق الذكر.”
“حسنًا.”
أجبت باقتضاب، ووضعت البطانيات قرب الأريكة.
كان فضولي يقضّني، لكن لم يكن لي الحق في الإلحاح عليه.
—
دخلت قاعة الضيافة برفقة الخدم المرافقين لجلالته، ووقفتُ بالقرب من الباب.
عادةً، يُترك الخدم بالخارج عند استقبال الضيوف، لكن هذه المرة، طلب كاسروسيان من الجميع الدخول.
ربما أرادني أن أرى إردان.
وبين الزحام، وأنا أحني رأسي، لم يكن ليتعرّف عليّ، خصوصًا وشعري مصبوغ بالسواد.
“…”
سمعت وقع خطوات كاسروسيان، فرفعت نظري باتجاه إردان.
من حيث وقفت، لم أستطع رؤية ملامحه، فقط انعكاس خصلاته الفضية تحت ضوء الثريا.
ربما لذلك لم أستوعب في البدء أن إردان يقف هناك بالفعل.
“لقد تأخرتَ.”
قالها بصوتٍ متعالٍ بارد، ارتعد له جسدي.
ذاك الصوت المتغطرس، والاتهام الخفي في نبرته، وكأنه يُحمّله وزر التأخر رغم أنه لم يُحدد موعدًا.
نعم، هذا هو إردان الذي أعرفه.
الرجل الذي حاول قتلي مرتين.
“كنت مشغولًا بعض الشيء.”
“هاه.” ضحك بازدراء.
يُقال إن أكثر أشكال الانتقام قسوة تشبه الحب العنيف؛ كلاهما يستهلكك، ويجعل كل وِجهتك موجهة نحو من سبّب لك الألم.
وأنا أؤمن بذلك.
فبمجرد رؤية مؤخرة رأسه، استطعت أن أتخيّل ملامحه وابتسامته الساخرة.
“لا بأس، فأنا الإمبراطور في النهاية.” قالها كاسروسيان بتهكم خفيف، ثم أشار للخدم.
“إذن، ما غايتك من هذه الزيارة؟”
تقدّم أكثر الخدم خبرة ليصبّ الشاي.
“لماذا نشرت قواتك حول أراضي بيتْرول؟”
قطّبت حاجبي، وأرهفت سمعي.
“هذا سؤال مفاجئ.” ابتسم كاسروسيان بمكر.
“ظننت أنك أتيت لتُجادل بشأن قبولي اعتذار الدوق الأكبر عن عجزه في سداد النفقة وتقسيم الأملاك.”
بدا جليًا أنه يتحدث بهذه الطريقة لأجلي أنا تحديدًا.
حينها، تذكرت تعابير تيسكان حين أخبرته أن إلوديا قد تكون متورطة بمحاولة اغتيالي.
بدا غاضبًا جدًا.
كنت أظن أن السبب هو خيبة أمله فيها.
“سنتحدث عن ذلك لاحقًا.” أجاب إردان، ما زاد من ارتباكي.
لاحقًا؟ هذا الذي لم يكن يرى إلا إلوديا، يؤجل أمرها؟
“لماذا نشرت الجنود حول بيتْرول؟”
“قلت إنك لم تعثر على تلك المرأة.”
“ثم ماذا؟”
“ببساطة، لأتمكن من الإمساك بها إن حاولت الفرار وتسليمها إليك.”
أهملت ذكر إلوديا وركّزت على مجريات الحديث. كان واضحًا أن “تلك المرأة” هي أنا.
“بما أن أراضي بيتْرول تتبع التاج مباشرة، فإن تدخلي فيها أكثر يُسرًا.
كما أنني وعدتك سابقًا بالتعاون الكامل.” ارتشف من فنجانه بهدوء.
“فما الإشكال إذن؟”
“أرسلتُ رجالي للتحقق من مصيرها، لكن جنودك منعوهم من الدخول.”
“آه، لا بد أنهم تلقّوا أوامر مباشرة بأن مجرمة خطيرة تختبئ هناك.
أرجو أن تقدر حرصي.”
وضع فنجانه، وابتسم بثقة.
“لا يمكنني الخوض في التفاصيل، كما تعلم.”
التعليقات لهذا الفصل " 46"