أغمض تيسكان عينيه ببطء، وعقد ذراعيه في محاولة لتهدئة اضطرابه، ثم فتحهما مجددًا وهو يقول بنبرة باردة:
“هذا هو الثمن الذي يدفعه من يتلاعب بي ويستخفّ بي.”
لم تكن نظرته إلى إلوديا مشوبة باحتقار أو كراهية، بل كانت خاوية من كل شعور، تمامًا كالنظرة التي يُلقيها على الجدران، الأرض، أو قطع الأثاث المنتشرة في الغرفة.
تراجعت إلوديا خطوة إلى الوراء، تكبت حيرتها من تلك النظرة الجامدة، حين قال:
“الدوقة االكبرى تقي باللورد إردان في الفيلا سرا.”
استعاد تيسكان تلك اللحظة التي تكشّفت فيها خيانة إلوديا. رغم مرارة الانكشاف، لم يثر ضجيجًا.
شرع في ترتيبات الطلاق بصمت مدروس، محافظًا على ما تبقّى من سمعة العائلة الدوقية.
لم يُلقِ باللوم على أحد سواه، فقد آمن حينها أنه هو من أساء الاختيار.
وسعى لأن تمرّ الأمور دون ضجيج.
إلا أن رسالة من ليريبيل زلزلت قناعاته.
إذ بها تبرز الحقيقة المؤلمة:
“لأنني تجاهلت خيانتهما، فإن هذه السيدة قد تدفع الثمن.”
إردان، كما يعرفه تيسكان، لم يكن ليتردد لحظة في التضحية بزوجته لأجل إلوديا.
وفقط في تلك اللحظة، بدأ يدرك كم كان ساذجًا.
أخبر ليريبيل أن الطلاق قيد التنفيذ، وبدأ يراقب تحركات آل المركيز لمساندتها.
ومع ذلك، لم يكن قد وجّه اللوم لإلوديا بعد.
ثم قال، وكأن بصيرته انفتحت لتوّها:
“حين غادرت، قالت لي الليدي إلوديا أن أحذر من قطاع الطرق.”
وحين اتضحت له مساهمتها في مخطط اغتيال ليريبيل، تبدّل موقفه كليًا.
لم يعُد يرى في صمته صبرًا أو نُبلًا، بل تستّرًا على جريم
ة. حينها، قرر أن يحملها المسؤولية كاملة.
ومهما يكن العقاب الذي قد تفرضه ليريبيل على إلوديا وإردان، فقد رفض تيسكان تقديم نفقة أو مشاركة في الممتلكات، مؤكّدًا أن الخيانة وحدها تبرّر كل شيء.
أراد أن يوسمها بالخيانة أمام العلن، ليُثبت للناس ما كان يظنّونه بها.
كان يعلم أن ما سيفعله قد يلطّخ اسم العائلة وحتى سمعته هو، لكن في عينه، كان ذلك أهون من التواطؤ مع الفساد.
“أظن أن المسألة قد حُسمت.” خرج صوته باردًا، خاليًا من أي ندم.
لم يعُد يرغب بالتواصل معها، لكنه منحها قدرًا ضئيلًا من الاحترام، لذكرى حبٍّ اندثر.
قالت إلوديا، ودموعها تلمع في عينيها، لكن نبرتها تحدّق:
“أنت لا تختلف عنها.
كل ما حدث، حدث لأنك لم تحبّني.
كنتُ مضطرة للابتعاد عنك.”
كان تيسكان يعرف تلك النظرة. نظرة الضحية التي تغسل يديها من الذنب.
قال بجمود:
“العار الذي نال العائلة، والازدراء الذي تتعرضين له، كلّه من صنع يديكِ.
فلِمَ تتكلمين وكأنني أنا المذنب؟”
ذلك الوجه…
وجه المرأة التي كانت دومًا تبرّر أفعالها كلّما دبّ بينهما الخلاف.
لم تكن تتهرّب بكلماتها من المسؤولية، بل كانت مقتنعة تمامًا بما تقول.
تؤمن بأنها طيبة، فاضلة، ومن يلومها فهو الظالم.
ولتثبت تلك الصورة، كانت قادرة على ليّ الحقيقة بكل اتجاه يخدم روايتها.
وحين واجهت ليريبيل ووصفت بالمخادعة، صاحت بيأس: “أنا لست عشيقة!”
كأنها تنكر الواقع، لا لتقنع أحدًا، بل لتُخدّر ضميرها.
“لأن تيسكان لم يحبني، ولأنه كان باردًا، اضطررت.
انا لم أرتكب خطأ.
بل هو السبب.”
زفر تيسكان تنهيدة طويلة، ساخرة.
كان يدرك أن أي جدال معها لن يُجدي.
إلوديا قد غرقت تمامًا في وهم تبريراتها.
ومع ذلك، سأل فجأة:
“هل قلتُ لكِ يومًا أنني لم أحبكِ؟” وتقدّم نحو مؤخرة الأريكة التي كانت تجلس عليها.
لم يشأ رؤية وجهها المتشنّج، ولا دموعها التي تعوّدت أن تستجلب بها العطف.
صرخت بنبرة حادة:
“أظهرتَ ذلك من أفعالك!”
قال بهدوء:
“وهل تملكين دليلاً على ذلك؟”
“شعرتُ بذلك! لقد جرحتني!”
نهضت إلوديا، مرتجفة من الغضب، واستدارت نحوه، ودموعها تفيض من عينيها.
“لم يكن أمامي خيار! أنت من جرحني، ولهذا…!”
كانت واثقة من أوهامها.
ولو كانت تعلم أن تيسكان كان مطّلعًا على خيانتها وصمت، لما تجرأت على هذه المواجهة.
لكنها لم تكن تعلم، ولهذا صرخت بكل يقين أعمى.
قال ببرود، وهو ينظر إلى شفتيها المرتجفتين:
“لا دليل على أنني لم أحبكِ.
لكن خيانتكِ موثّقة.
الأمر جليٌّ وواضح.
هل أدركتِ؟”
أخرج ساعته من جيبه، وتجنّب النظر إليها، وراح يراجع الوقت.
“إن تم قبول الاعتراض على النفقة وتقسيم الممتلكات، فسأطالبكِ بها، بصفتك الطرف المخطئ.
فكوني مستعدة.”
ثم نظر إليها، كأنه يمنحها فرصة أخيرة للكلام. أغلق الساعة وهمّ بالمغادرة.
صاحت خلفه بصوت باكٍ:
“هل يسعدك أن تجعلني في صورة الشريرة؟ أن تُجبرني على مغادرة القصر وحدي؟ أن تجعلهم يكرهونني؟ ماذا فعلت بك لتنتقم بهذا الشكل؟”
عند الباب، التفت إليها وسأل بهدوء:
“ولِمَ يهمك ذلك؟”
رفعت عينيها إليه، مذهولة من سؤاله.
“ما المشكلة؟” كررها، بصوت ساكن، ثم أردف:
“لم تعودي الدوقة الكبرى، ولا سبب يدعوكِ للمجيء إلى هنا.
فلماذا تهتمين إن كانوا يكرهونكِ؟”
ثم مال برأسه قليلًا، وأضاف:
“الجميع هنا يعيشون لأجلي.
وقد احترموك فقط لأنني اخترتك، رغم أنكِ كنتِ من عامة الشعب.
فهل يُفترض بهم أن يغفروا لكِ بعد ما اقترفته؟”
ثم أنهى حديثه، بنبرة خالية من أي تعاطف:
“في المرة القادمة، راسليني قبل أن تأتي.
لا أرى سببًا لأُعطّل جدولي من أجل زائرة مثلكِ.”
كان تيسكان قد طوى صفحتها نهائيًا.
لم يعُد يجد جدوى في تبسيط المفاهيم لمن لا يرغب في الفهم.
ثم خرج.
“مرهقة…”
همس بها في نفسه.
كانت لقاءاته بإلوديا على مرّ السنوات، خليطًا من الإعياء واليأس.
كان يعلم أن الجدال معها مضيعة للجهد، لكن كلماتها في هذا اليوم، فاقت قدرته على الاحتمال.
كما كانت دومًا: مرهقة، مستنزفة، وعقيمة.
التعليقات لهذا الفصل " 42"