“لنذهب.”
ما إن اعتدلت في جلستي حتى التفت لويس وكأن شيئًا لم يحدث.
“لحظة فقط.”
لم أستفسر عن سر تصرفه الذي أوحى وكأنه يلاعب حيوانًا أليفًا، بل اكتفيت بإعادة تثبيت البروش، وأسرعت للحاق به.
لم يكن ثمّة داعٍ للتذمر، خاصة بعد أن منحني شيئًا ثمينًا كهذا.
سألته وأنا أسير خلفه: “ما الذي دفعك لتكون دليلي، يا لورد لويس؟”
إذ بدا من الغريب أن يتفرغ رجل بمكانته، سيّد برج السحر، لمرافقتي.
“لست متأكدًا.”
كانت إجابته الباردة توحي بأن كاسروسيان هو من أوصى بذلك.
ابتسمت وقلت: “هذا لطف منك.
لا شك أن مهام برج السحر تستأثر بوقتك، وكان بمقدورك الرفض.”
توقف لويس فجأة، وحدّق بي بصمت.
هاه؟
ثم مدّ يده وعبث بشعري مجددًا، فاضطررت لإمالة رأسي للخلف وتضييق عينيّ.
وعلى الرغم من جموده الظاهري، خُيّل إليّ أنه راضٍ عن شيءٍ ما لم أستطع تبينه.
ما الذي يحدث؟
سحب يده وعاد إلى السير كأن شيئًا لم يكن.
أمر مريب.
عدّلت شعري بارتباك، إذ لم يكن من اللائق أن يعبث أحدهم بمظهري بتلك الطريقة.
ومع ذلك، لم أشعر بالضيق من تصرفه، وهو ما بدا لي غريبًا.
ظننت في البدء أن هدوئي مردّه إلى الهدية التي قدمها. غير أن تكرار الموقف جعلني أدرك أن المسألة تتجاوز ذلك… لقد بدا طبيعيًا.
طردت تلك الأفكار من رأسي وأسرعت للحاق به.
لا أعلم كم من الوقت مضى ونحن نجتاز أروقة القصر الموشّاة، حتى وصلنا إلى وجهتنا.
—
أمام الباب، اصطفت مجموعة من الحرس والفرسان والخدم والمساعدين.
وتحت أنظارهم، تبعت لويس إلى الداخل عبر الباب المفتوح.
“لقد وصلتِ.”
كان الجالس خلف المكتب الفخم هو الإمبراطور كاسروسيان نفسه.
“أتطلع للعمل معكِ، يا بارونة ليريبل.”
كالعادة، كان يرتدي حُلّة مفصّلة بعناية، ونظارته السميكة تستقر على أنفه، وشَعره مصفف بإتقان في انقسام 2:8.
انحنيت وقلت بأدب: “سأبذل قصارى جهدي في خدمتك، يا جلالة الإمبراطور.”
من هذه اللحظة، سأخدم الإمبراطور باسم مستعار: “ريو”.
—
وكان هذا الترتيب ثمرة حديثٍ دار بيني وبين كاسروسيان عقب إبرام عقدنا، حين عرض عليّ الإقامة في القصر الإمبراطوري كضيفة تحت جناح حمايته.
سألته حينها: “هل تأكد وجود جثة تنين في إقليم بيتروول؟ وهل من الممكن إخفاء وجودي إلى حين بدء التشريح الفعلي؟”
نظر إليّ كاسروسيان بدهشة، متسائلًا عن مغزى طلبي، وهو -بصفته الإمبراطور- قد تعهّد بحمايتي.
فأجبته بابتسامة هادئة: “أرغب في تجنب تدخل اللورد إردان قدر الإمكان.”
لكن الحقيقة أنني لم أكن متيقنة من وجود جثة تنين أصلًا.
وإن لم تكن موجودة، فسينقض العقد، وتُسحب الحماية، وأجد نفسي دون سند، هدفًا لإردان إذا ما علم أنني ما زلت على قيد الحياة.
لذلك كانت خطتي أن أختبئ، وحين يتضح زيف وجود الجثة، أختفي بهدوء وأعيد رسم طريقي.
قال كاسروسيان بتفهم: “أفهم مقصدكِ. وسأحترم رأيكِ، يا بارونة.”
وافق بلا تردد على خطة اختبائي، وبدأنا نبحث عن وسيلة تبقيني بجواره في القصر دون أن ينكشف أمري.
وفي نهاية المطاف، اتفقنا أن أتنكر في هيئة خادمة تابعة له.
وبهذا أظل قريبة منه، محمية، وأجمع في الوقت نفسه معلومات قد تكون نافعة مستقبلًا… وربما في سبيل انتقامي.
—
كان يساورني القلق من أن يتعرف عليّ إردان، لكنه سرعان ما تلاشى، إذ نادرًا ما يزور العاصمة، منشغلًا بحكم إقليمه وكأنه ملك مستقل.
بعد مغادرة لويس، وقفت صامتة في حضرة الإمبراطور، فقال كاسروسيان مبتسمًا: “يبدو أن في جعبتكِ الكثير من الأسئلة.
اسألي ما شئت، فنحن بمفردنا.”
سألته في حيرة: “لماذا نحن وحدنا؟”
“آه، لا أحب أن أحيط نفسي بالكثير من الناس.”
“عذرًا؟”
وما إن هممت بطرح سؤال آخر، حتى سُمِع طرق خفيف على الباب.
عندها، أزاح كاسروسيان الأوراق جانبًا، والتقط صحيفة صفراء أشبه بمجلة فضائح، ثم وضع قدميه على المكتب في وضعية مريحة تنم عن استهزاء متعمد.
“ادخل.”
دخل كبير الخدم، نظر إليّ للحظة، ثم وضع الأوراق على المكتب، وانحنى وغادر بصمت.
قال كاسروسيان بعد خروجه: “لأسباب عدّة، أفضّل العمل منفردًا.
لا شيء يدعو للقلق.”
كان جليًا أنه لا يرغب في أن يبدو كفؤًا أمام الآخرين، بل يتعمّد بث صورة الإمبراطور اللامبالي.
لكنني، من خلال ملاحظتي، كنت واثقة أنه ليس كما يدّعي.
فما الذي يدفعه إلى التظاهر بالضعف؟
قلت: “ألن أبدو موضع ريبة؟”
لم أرغب في سؤاله مباشرة عن نواياه، فبيننا مسافة لم تُختصر بعد، وسلامتي كانت أرجح من فضولي.
إذا كنت الخادمة الوحيدة المرافقة للإمبراطور عن قرب، فسيلاحظني الجميع، وقد يؤدي ذلك إلى افتضاح أمري.
فكر للحظة، ثم قال: “اقترحت أن تتنكري كخادمة لأن أحدًا خارج المقاطعة لا يعرف ملامحكِ.”
وكان محقًا؛ إذ لم أظهر للعلن قط، لا في مناسبات ولا في المحافل الاجتماعية.
كنت غارقة في إدارة أملاكي، بالكاد أجد وقتًا للراحة.
عدا مرة واحدة… في جنازة بريسيلا.
يومها ارتديت قبعة ذات نقاب يخفي ملامحي، خشية أن تُعرف هويتي إن قررت لاحقًا الانفصال عن إردان.
في الواقع، لا أحد يعرفني، لذا وافقت على التنكر دون تردد.
قال كاسروسيان: “فرص التعرّف عليكِ ضئيلة، لكنها ليست معدومة.”
أومأت، إذ كانت تلك مخاوفي أيضًا.
ثم أضاف مبتسمًا: “لهذا طلبت من سيّد البرج مرافقتكِ.”
“ماذا؟”
“الخادمة التي أحضرها سيّد البرج… ألا تبدو كساحر؟”
تشكلت ابتسامة خبيثة خلف عدسات نظارته: “سيظن الناس أن الإمبراطور الضعيف يخشى خطرًا ما، فيستعين بساحر متنكر لحمايته.”
كانت فكرته ذكية. حتى إن لاحظ أحدهم وجودي، فسيظنني مجرد ساحر متخفٍّ، لا أكثر.
“أشكرك على حسن تدبيرك.”
ضحك كاسروسيان بخفة، ثم أعاد ترتيب الأوراق.
“خذي وقتك.
لا عمل حقيقي ينتظركِ على أي حال.”
أجبته بصوت خافت:
“حسنًا.”
ورحت أرقبه وهو يتصفح الأوراق بعناية.
لكنني لم أصبح خادمة للإمبراطور فقط كي أختبئ… أو لأتجسس.
بل كان هناك سبب آخر…
أعمق، يحتجب في قلبي.
التعليقات لهذا الفصل " 41"