كان سؤالها في محلّه، غير أنّ إردان لم يُظهر أدنى إشارة إلى الرضا.
“كم اشترت؟”
أولى بواعث استيائه كانت فضوله المتأجّج حول حجم المشتريات التي دفعت كبيرة الخدم للتصريح بعجزها عن تدبير ميزانية القصر.
لم يُجب إردان، بل أوغل بناظريه في كومة من الأوراق المتراكمة أمامه.
حين استقدم إيلوديا إلى هذا المكان، أمرها أن تترك خلفها كل ما يربطها بالدوقية الكبرى.
لم يرغب بأن تطأ ممتلكاته أيّ قطعة تحمل بصمة تيسكان.
جاءت إليه شبه خاوية اليدين، فكان طبيعيًا أن تشتري ما يفوق الحاجة.
حاد بنظره عن الأوراق، وانتزع شيكًا من أحد الدروج، ثم رماه أمامها بلا اكتراث.
“هل يكفي هذا؟”
سقط الشيك عند قدمي كبيرة الخدم.
ولكي تلتقطه، اضطرت للركوع والانحناء، تمامًا كما أراد إردان—إذ رأى في ذلك إذلالًا مستحقًا لجرأتها المفرطة.
وكان ثاني أسباب تكدّر مزاجه، جسارة امرأة لا يتعدى دورها كونها خادمة مأجورة.
انحنت والتقطت الشيك كما توقّع، ثم رفعت رأسها وسألت بثبات:
“وماذا عن رواتب الخدم؟”
كانت تعلم حدود مسؤوليتها، ولم تخجل من الموقف، بل نطقت بما هو أكثر إلحاحًا.
“سأتولّى الأمر قريبًا، فلا تثيري الضجة.”
قطّب إردان جبينه ولوّح بيده كما لو يطرد ذبابًا.
كان الرجل الذي لا يتردّد في رمي الشيكات لامرأة استقدمها بعد طرده لزوجته، ومع ذلك يُهمل رواتب خدمه الذين يصنعون أبهته الأرستقراطية.
هكذا كان إردان.
قالت كبيرة الخدم، وهي تنحني في طريقها للمغادرة تنفيذًا لأمره: “سأُعيّن خادمة أخرى لتولي شؤون السيدة الجديدة بدءًا من اليوم.
هذا كل شيء.”
لكنّه أوقفها، وقد تلبّد وجهه بالضيق: “لحظة.
إن لم تَخدم كبيرة الخدم إيلوديا، فمن يفعل؟ وبأي حق تتجاوزين أوامري؟”
أجابت بنبرة هادئة: “هل يُعقل أن أستمر بخدمة شخص واحد فقط، وأنا مسؤولة عن طاقم الخدم بأكمله؟”
لم يكن في قولها ما يُستنكر. ففي مركيزية فيديليو، كما في أرفع منازل النبلاء، تُعنى كبيرة الخدم بالإشراف وتُخصّص خادمات خاصات للسيدات.
وإن تعذّر الأمر، تُكرّس خادمة بعينها لخدمتهن.
أما إيلوديا، فهي ليست حتى سيدة القصر، لذا لم يكن منطقيًا أن تتولّى خدمتها بنفسها.
أضافت بإصرار: “تفرّغي لسيدة واحدة تسبّب في غفلتي عن تأخّر الرواتب.
لذا، أعتزم العودة إلى مهامي الأساسية وأبذل أقصى جهدي.”
ابتسم إردان بسخرية ونهض من مقعده: “ماهرون في تبرير تقصيركم… بدلًا من التحجّج، هل جربتِ يومًا أن تؤدي عملك بإخلاص؟”
قالت بهدوء: “أعتذر.”
قهقه بسخرية وصرخ: “آه، ما أشقى حالي! محاطٌ بالعاجزين الذين يحيلون حياتي إلى بؤس دائم!”
انخفض رأسها وأصاخت السمع لصوته المتعجرف، حتى إذا طال الصمت، قال:
“اختاري خادمة كفؤة لإيلوديا.
لا أريد أن أسمع منها أي شكوى.”
عاد إلى مقعده وقد ارتسم عليه ملل عميق.
وما إن همّت كبيرة الخدم بالخروج، حتى فكّرت في مرارة:
على الأقل، أدرك أن تخصيص خادمة لسيدة لا تعدّ زوجته أمرٌ سخيف.
كان يجب أن يكون ذلك بديهيًا… ومع ذلك، وجدت نفسها ممتنّة، وسخرت من ذاتها.
أهكذا صارت؟ تُقدّر ما هو بديهي؟ كم هذا بائس.
لكن أفكارها قُطعت بصوت خطوات مسرعة خلفها.
إيلوديا؟
كانت هي بالفعل.
ترتدي ثياب الخروج، تركض، تحمل أوراقًا بين يديها، ووجهها شاحب كالموتى.
—
كنتُ أقف متشابكة الذراعين قبالة الحائط، حيث علّقت صورًا لإردان وإيلوديا، تتفرّع منها أسماء وعلاقات متشابكة كشبكة عنكبوت خبيثة.
“كيف أسدّد لهم الدين؟”
العقوبة القانونية وحدها لا تكفي. حتى إن كُشف تزوير إردان للوثائق، وحتى إن ثبُتت محاولته لقتلي، فلن يُسجن إلى الأبد.
سيشتري خلاصه بالمال والسلطة.
إلا إن أُعدِم.
لكنه لن يُعدَم.
السبيل الوحيد لإرواء غليان الانتقام في صدري، هو أن أسترد العدالة بيدي.
“صعب.”
هل بمقدوري مجابهة نبيل رفيع الشأن مثله؟ حتى لو عثرت على جثة تنين واغتنيت، فإن خطّتي ستتطلّب وقتًا طويلًا.
والأسوأ، أنّ العثور على جثة كهذه محض احتمال.
لذا، عقدت صفقة مع الإمبراطور.
وعدني بالحماية طيلة مدّة العقد، لكن الانتقام لم يكن ضمن ما اتفقنا عليه.
“كم هو شاق.”
تنهدتُ، ثم رفعت إطارًا مزخرفًا من الأرض وعلّقته على الجدار.
كان يحتوي على قصاصات ورقية مرقّعة—رسالة ممزّقة كتبها كاسروسيان ذات يوم: “مبارك لك.”
احتفظتُ بها ضمن أغراضي، لا لإخفاء الحقد، بل لتذكير نفسي به، وإن غُلِّف بالهدوء.
كلما وقعت عيناي عليها، تذكّرت كم رغبت بتمزيق إردان وإيلوديا كما مزّقت تلك الرسالة.
طريق الانتقام طويل، لكنني لن أرجع عنه.
نظرتُ إلى المرآة.
كان انعكاسي يُظهر هيئة أنيقة بثياب جديدة، أغلى ما ارتديته في حياتي، أهدانيها كاسروسيان.
“وإن كانت ملابس رجال، فلا بأس.”
طولي جعلها تبدو ملائمة، ولم أشعر بأي نفور.
طرقات
ما إن انتهيتُ من ربط شعري الأسود، حتى سمعت طرقًا على الباب.
“اللورد لويس؟”
فتحتُ الباب، فكان هو.
ملامحه هادئة كعادته، رمقني بنظرة خاطفة.
“تُناسبك.”
أربكني إطراؤه المفاجئ، فحككت مؤخرة رأسي وقلت ضاحكة: “ربما لأنّ الأناقة تصنع صاحبها.”
أمال رأسه قليلًا، وكأنه يسأل بعينيه: “أترينها أنيقة فعلًا؟”
ثم قال بهدوء: “ولِمَ لم ترتدي البروش الذي أهديتُكِ إيّاه؟”
“آه، هذا…”
أسرعت إلى أحد الزوايا، وأخرجت البروش من مكانه بعناية.
قدّمته بكلتا يديّ وقلت: “سمعت أن اللؤلؤ هش، فأردتُ الاحتفاظ به لمناسبة مميزة.”
هزّ كتفيه، وقد بدا عليه الرضا لحرصي عليه.
ثم لمس البروش بأطراف أصابعه، فتوهّج بنور خافت.
“لقد سحرتُه بتعويذة شبه دائمة.
يمكنكِ استخدامه كما تشائين.”
اتسعت عيناي في دهشة، وقلت بذهول: “لقد زدتَه قيمة على قيمته!”
ثم انحنيت بكلتا يديّ وأنا أقبض على الهدية النفيسة.
“شكرًا جزيلًا لك!”
رفع يده…
وربّت على رأسي.
التعليقات لهذا الفصل " 40"