بصوت هادئ ونبرة رصينة، كأن ضحكته قبل لحظات لم تكن سوى سراب، قال كاسروسيان:
“كما خمنتِ مسبقًا… لا، بل لأكون دقيقًا، كنت أعلم يقينًا أنكِ ستطئين أرض بيتْرول.
ولأبلغ غاية الدقة، فأنا من وجّه إردان ليمنحكِ تلك الأرض.”
رمقته بعينين خاليتين من أي دفء، وسألته بنبرة حادة:
“ولماذا؟”
أجاب بنبرة خافتة امتزجت بشيء من الاعتذار:
“قبل أن أُفصح عن السبب، يتعيّن عليّ أولًا أن أقدم اعتذاري لتصرفي دون استئذانكِ.
أرجو منكِ العذر.”
صمتي لم يكن قبولًا ولا رفضًا، بل عجزًا عن التلفظ بكلمة مجاملة كاذبة، أو إنكار اعتذار إمبراطور.
لكنه استأنف حديثه غير آبه بصمتي:
“لكن لا تفهمي الأمر على نحو خاطئ.
لم أطلب من إردان أن يؤذيكِ.
ما بدر منه كان تصرفًا فرديًا بحتًا.”
قلت ببرود متزن:
“سأصغي لما يدفع جلالتكم لمنحي أراضي بيتْرول، ثم يكون لي الحكم بعد ذلك.”
ابتسم كاسروسيان ابتسامة خفيفة سرعان ما انطفأت، فعادت ملامحه إلى الصرامة وهو يقول:
“القصة طويلة…”
فأجبته بثقة:
“لا بأس سأكون صبورة واسمعها .”
أومأ باقتضاب، ثم مد يده إلى لفافة ورقية موضوعة على الطاولة، بسطها فوق سطحها، وإذا بها خريطة واسعة تتسع لأسرار الأرض.
قال بنبرة متروية:
“أراضي بيتْرول ليست مجرد أرض مهملة كما يتصور البعض.
بل إنها تخبئ سرًا عظيمًا كُمِن في باطنها منذ قرون.”
سألته بدهشة تعلو ملامحي:
“سر؟”
لم يجبني مباشرة، بل أشار بإصبعه إلى موضع معين على الخريطة، حيث تستقر أراضي بيتْرول، ثم قال:
“تلك الأرض تقع داخل حدود الإمبراطورية، لكنها مفصولة عن إقطاعية فيديليو.
وحتى تدركي مغزى ذلك، لا بد أن تعلمي كيف آلت بيتْرول إلى عائلة فيديليو.”
قلت أسترجع ما قرأته:
“أعلم أنها مُنحت لسلف العائلة، الماركيز بيتْرول، مكافأة لتطهيره الأرض من الوحوش التي كانت تكتنفها.”
كانت تلك الأرض قد خضعت لسلطة فيديليو منذ أمد بعيد، وهي ذاتها الأرض التي بزغت فيها لعنة كانت سببًا في فناء بريسيلا.
نظر إليّ كاسروسيان بدهشة واضحة، وإن كانت نظارته السميكة تخفي تعابير وجهه.
قال مستغربًا:
“وكيف عرفتِ ذلك؟”
أجبته بهدوءٍ واثق:
“خلال فترة ولايتي كحاكمة مؤقتة، بحثت في خصائص الأقاليم.”
ربما طال الزمن أو ران الإهمال على تلك البقعة، فقلّ من يعرف أصول بيتْرول.
لكنها لم تكن لتغيب عمن أراد أن يعرف.
قال ساخرًا:
“أنتِ أكثر فطنة من ذلك الأحمق إردان.”
“عذرًا؟”
ضحك بسخرية وقال:
“ذاك الجاهل لم يكن يدرك شيئًا.
ولهذا قدّم لكِ بيتْرول دون تردد.”
ثم استعاد جديته وأضاف:
“كما تعلمين، نال الماركيز الأرض بعد قتاله للوحوش. لكن ثمّة تساؤل ظل عالقًا.”
نظرت إليه أتمعّن في كلماته، وقد بدأت أفهم ما يلمّح إليه.
قال ببطء:
“لماذا رفض الماركيز سائر المكافآت الفاخرة، وطلب تلك الأرض التي التهمتها المعركة؟”
فعلاً، لم تكن الأرض ذات ميزات جغرافية، ولا موقعًا استراتيجيًا، بل بعيدة، صعبة المنال، ومحاطة بحدود الإمبراطورية من كل الجهات.
تابع كاسروسيان:
“وازداد الغموض حينما بدأت عائلة فيديليو تعاني لعنة غريبة.”
قلت بقلق يتسلل إلى نبرتي:
“لعنة؟”
أومأ برأسه وأجاب:
“لم تجدِ معها نفعًا قوة إلهية، ولا دواء، ولا حتى أعظم صنوف السحر.”
سكتُّ، والريبة تخترق سكينة صدري.
ثم أردف:
“أيمكن أن تكون لعنة وحش عادي؟ ما نوع المخلوق الذي يزرع لعنة بهذا العمق ويُدمّر أرضًا بأكملها؟”
حتى تلك اللحظة، كنت أظن أمر اللعنة والوحش خرافة تُروى… حتى قالها.
قال بصوت قاطع:
“حين بدأت تحقيقي، تجاهلت المقدمات وتوغلت في لبّ الحقيقة… إنه تنين.”
شهقتُ:
“تنين؟!”
أجاب بثقة لا ريب فيها:
“نعم.
إن كانت اللعنة التي أصابت عائلة فيديليو نابعة من ’كلمة قدرة‘ لتنين، فحينها تُفسَّر كل تلك الغرابة.”
فكلمات القدرة التي يتفوّه بها تنين لا تكسرها طقوس، ولا تعالجها شفاءات، ولا تبطلها أدعية. فالتنين، بوصفه كائنًا سحريًا، لا تهزمه إلا قوى تضاهيه.
قال كاسروسيان:
“ولو أن الماركيز دفن جثة التنين في الأرض ذاتها، لكان من الطبيعي أن ينبذ كل المكافآت الأخرى ويطلب الأرض وحدها.”
جثة تنين… كنز يتخطى حدود التصور. من حراشفه إلى عظامه، من أوتاره إلى قلبه.
“قلب التنين السحري” وحده يساوي ثروة تُبنى بها ممالك.
قلت ببطء:
“إذاً، فساد أرض بيتْرول، واضطراب تدفق المانا فيها، كلّه بفعل جثة التنين؟”
قال بإيجاز:
“تمامًا.
فجسد التنين لا يذوي بسهولة، وسحره يحفظه من التحلل لقرون.
وإن كانت الجثة لا تزال هناك، فهي إذًا بحالة ممتازة، وهي الآن ملك لكِ بصفتك حاكمة تلك الأرض.”
شهقتُ مرة أخرى، والتفكير بثروة كهذه بعثر أفكاري.
لكن صوت تسكان، الذي ظل ساكنًا طوال الوقت، قاطع شرودي:
“إن كان المخلوق تنينًا حقًا، فلماذا وُصف بأنه وحش؟ قتل التنين يُعد نصرًا مبهرًا، وكان يمكن للإمبراطورية أن ترفع بطلها إلى مصاف الأساطير.”
أجاب كاسروسيان:
“صحيح.
فالتنانين كانت تُعبد كحاكم الحماية حين تأسست الإمبراطورية.
ولو اعترف أحد أن واحدًا منها هاجم شعبها، لاهتزّت هيبة الإمبراطورية من جذورها.
ولهذا طُمرت الحقيقة.”
أومأت برأسي دون قصد، ثم انتبهت إلى نظرات كاسروسيان التي تراقبني بابتسامة مبهمة.
قال:
“أنتِ محقة.
تلك كانت الحقيقة قبل أن تتحول إلى أسطورة يُهمس بها.”
سأل تسكان من جديد:
“لكن، إن كانت الجثة بكل هذه القيمة، فلم تُركت دون استغلال من قِبل آل فيديليو؟”
نظر كاسروسيان إليّ كأنه ينتظر الجواب.
فقلت:
“ربما اجتاحت اللعنة العائلة فجأة، فلم تُمنح لهم الفرصة لنقل السر أو استغلال الجثة.”
وهذا ما آمنت به.
فبريسيلا كانت تعاني، وإن كانت اللعنة قد بلغت ذروتها لحظة بَدئها، فربما كانت كفيلة بشلّ الماركيز نفسه، وأخفت كل ما عرفه.
قال كاسروسيان مؤكدًا:
“هذا ما ظننته أنا أيضًا.”
ثم ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الغريبة من جديد، كأن لغزًا دفنته السنون قد انكشف أخيرًا تحت رماد النسيان.
التعليقات لهذا الفصل " 37"