“أشكركم لمساعدتكم لي، وأعتذر عن تأخري في تقديم التحية، يا سيّد البرج.”
أكان هذا ما ابتغاه سيّد البرج حقًا؟
“همم.”
ما إن أتممت عبارتي، حتى ارتسمت ابتسامة طفيفة عند طرفي شفتيه، ما لبثت أن اتسعت كاشفة عن رضًا لا يُخفى.
“سمعت عنك كثيرًا، غير أن رؤيتك بعينيّ تفوق كل ما قيل.”
وبينما أواصل حديثي، رأيت الفخر يعلو وجهه، وأنفاسه تتورد كأنها ترفرف من اعتزاز دفين.
“أن تُتقن السحر بهذا الاتساق حتى في أراضي بيتْرول؟”
اعتدل في جلسته ورفع ذقنه، وكأنه ينال وسامًا شرفيًا لم يُعلَن عنه.
“إنه لشرف عظيم أن يحطّ رحاله شخص بمكانتك، يا سيّد البرج، لينقذ إنسانًا بسيطًا مثلي.”
كنت أراقبه بتمعّن، وأنا أواصل مديحي له. أجل، لقد أنقذني، وإن كنت لم أفهم بعد الدافع الذي حمل الإمبراطور على إرساله، إلا أن امتناني له كان راسخًا، وهذا أقل ما يُقال.
“لن أنسى معروفك أبدًا، وسأقصّ سيرتك لأحفادي، وأروي بطولاتك في كل محفل.”
ولم يبدُ لي أن هذا الرجل، الذي يستحق الثناء حقًا، يكره المديح، بل لعله مولع به، لذا تماديت قليلًا.
فالمديح، في نهاية الأمر، لا يُكلّف شيئًا.
“تبدين مُرهقًة، تفضّلِ بالجلوس.”
قالها وهو يشير إلى الكرسي المقابل له، وقد اعتلت وجهه ابتسامة واسعة تنمّ عن سرور ظاهر بما سمع.
يقال إن الثناء يُغري الحيتان بالرقص… ويبدو أنه يُهذّب حتى أكثر المتغطرسين.
“إنه لفخر لي أن أكون في حضرتكم، يا سيّد البرج.”
وكلّما نطقت بكلمة، ازداد انبهاره وارتياحه.
“هل لي أن أتعلم السحر أيضًا؟ رؤيتك، يا سيّد البرج، ألهبت في داخلي شغفًا لا يوصف لتعلّم هذا الفن الراقي.”
“همم-همم.”
“بطبيعة الحال، لا أظنني سأبلغ مستواك يومًا، يا سيّد البرج.”
“همم-همم.”
“منذ متى تمتلك هذه القدرة الفذّة؟ أكنت مولودًا بها؟”
“هوهو.”
“نعم، لا شك أنك وُلدت بموهبة فريدة، ولهذا وصلت إلى ذروة برج السحر.
إنّه أمر يدعو للإعجاب فعلًا.”
“هوهوهو.”
تابعت إطرائي، لا فحسب شكرًا له، بل لأشغل نفسي عن تلك الرجفة التي سكنت يديّ.
ورغم ما بدا عليّ من هدوء، كنت أرتجف في داخلي.
فالإحساس بدنوّ الموت، حين تكفّ عن المقاومة، مختلف كليًا عن أي شعور آخر.
“تفضلِ قطعة شوكولاتة.”
قالها وهو يُخرج من جيبه قطعة صغيرة ويناولني إياها، وابتسامته لا تفارقه.
“أحقًا يجوز لي أن أتناول شيئًا ثمينًا كهذا؟”
أومأ برأسه، والرضا بادٍ على وجهه كأنما منحني مكرمة عظيمة.
“اسمي لويس.
نادِيني به من الآن فصاعدًا.”
ربما كان سلوكي، المولود من صدمة الموت، قد ترك في نفسه أثرًا جعل الإعجاب يتسلل إليه دون وعي منه.
—
“بففتت.”
ما إن خرج تسكان إلى الردهة، حتى استقبله رجل مستند إلى الحائط بعباءة فضفاضة وضحكة ساخرة.
“هل أعجبتك رعونتي، يا جلالة الإمبراطور؟”
“هل عرفتني؟”
“كيف لي أن أنسى صوتك، يا مولاي؟”
خلع الرجل عباءته، فكشف عن شعر ذهبي بنارٍ تتقد، وعينين قرمزيتين تلمعان كشرارة موقد.
“بعضهم لم يعد يتعرف إليّ، فظننت أن صوتي صار مألوفًا.”
ضحك تسكان بخفة، فمجرّد أن كشف عن رأسه، بدا كأنّ أسدًا يقف بفرائه المتوهج، ما جعله من المستحيل أن يُنسى.
“مرّ وقت طويل منذ رأيتك على هذه الهيئة.”
مرّر كاسروسيان أصابعه في شعره وهزّ رأسه، وقد بان عليه التردد، مما أربك تسكان.
“لماذا جئت بهذه الصورة؟”
“عذرًا؟”
“لا شيء.
بالمناسبة، ما الذي جاء بك، يا دوق البلاد؟”
عند هذا السؤال، شحب وجه تسكان، كأن ذكرى أراضي بيتْرول قد عصفت بذهنه.
“لمَ سمحتَ لأردان أن يرسل البارونة ليريبيل إلى هناك؟ لا بد أنك كنت على علم بذلك، خاصة وأنك ساعدتها بيدك.”
أنزل كاسروسيان يده ونظر إليه بثبات.
“أنا من أرسلتها.”
تشنّج وجه تسكان عند سماع الإجابة.
“بل أمرتُ أردان أن يمنحها الأرض كتعويض.”
“مولاي…”
قالها تسكان بتحذير ظاهر في صوته، فابتسم الإمبراطور ابتسامة خفيفة.
“ما الذي ترجوه من تلك المرأة؟”
كفّ كاسروسيان عن التبسم، وحدّق فيه بنظرة مفترس، ورغم إحساس تسكان بالخطر، بقي متماسكًا.
“ألم تلاحظ أن أرض بيتْرول…
غريبة، يا دوق البلاد؟”
“…الآن بعد أن ذكرت ذلك، نعم، فيها شيء غير مألوف.”
“تلك الأرض تحجب سرًا جللًا، لا يدركه الناس ولو ساورهم الشك.”
“أي أنك…”
تجهم وجه تسكان، وانقطع عن الكلام.
ابتسم كاسروسيان بتلك الطريقة الغامضة التي اعتادها.
“البارونة ليريبيل ستغدو من أعظم شخصيات الإمبراطورية، مقابل امتلاكها لذلك السر.”
“…!”
ارتسمت على ملامح تسكان دهشة واضحة، لكنّه سرعان ما تمالك نفسه.
“هل كنت تنوي دعمها منذ البداية؟”
“نعم.”
“هل لي أن أعرف السبب؟”
فالرجل الذي عرفه لم يكن يتحرك عبثًا.
بل أشبه بمارد ساكن، لا يتحرك إلا ليحمي أبناء شقيقه الراحل.
فكيف يتحرّك لأجل امرأة؟
“تسألني عن السبب؟”
ابتسم كاسروسيان وربّت على ذقنه.
“لأني لا أطيق ذلك الوغد، أردان.”
رغم ما في الجواب من سخرية وخفة، إلا أن تسكان لم يدرِ إن كان ذلك مجرد ستار يخفي خلفه شيئًا أعمق.
“آه، ثم إنني لطالما كرهت زوجة الدوق.”
ارتبك تسكان عند سماع ذلك.
“كرهتها من أول نظرة.”
حدّق فيه كاسروسيان بنظرة تقول ما لا يُقال: لقد نبهتك.
“لو أردتَ حقًا مساعدتها، لكان حريًّا بك الظهور مبكرًا. لولا تدخلي، لكانت في خطر محقق.”
تمثّل كاسروسيان مشهد الأسى وتظاهر بالتأثر.
“كنت هناك.
جئت منذ وقت، وانتظرت.”
نظر إليه تسكان بدهشة وهو يسمعه يتمتم:
“لكن لويس لم يتوقف عن التذمر من الجوع.”
عبث بشعره بانزعاج.
“وكأنه سيموت إن لم يتناول الغداء.
ظل يردد أنه مفلس وأصرّ على مرافقتي.
أنهكني صداعًا.”
وقبل أن ينبس تسكان بكلمة، رمى إليه كاسروسيان شيئًا.
“…”
كانت شطيرة ملفوفة بورق.
إنها شطيرة الهوت دوغ ذاتها التي كان لويس يتناولها.
“ابتعدت فقط لبضع دقائق.
ولولاك، لكانت البارونة بخطر.
لذا… لك مني كل الشكر.”
لوّح بيده واستدار نحو الباب.
“الأمر محسوم إذًا؟ سأصطحب البارونة.”
“لكن…”
“لكن ماذا؟”
كان تسكان على وشك أن يرجو تأجيل الأمر نظرًا لحالتها غير المستقرة، غير أنه صمت حين رأى تلك النظرة في عيني كاسروسيان: نظرة كلب متحفّز، ينفش فراءه استعدادًا للهجوم.
إنه يكذب.
لو كان يفعل ذلك بدافع كراهيته لأردان فحسب، لما بدت عليه هذه الحماسة.
مهما كانت دوافعه، فقد غدا جليًا أن كاسروسيان قد اولِع بالبارونة ليريبيل.
التعليقات لهذا الفصل " 35"