لكن لم يطل بي الأمر حتى انكشفت لي الحقيقة، فعُدت لأجلس في مكاني.
نعم…
لقد وصلت إلى هذا المكان عبر بوابة النقل الآني، وإن كان الأمر كذلك، فلا مجال لأن يكون قد تبعني أحد إلى هنا.
“هل لي من مهرب؟” تمتمت وأنا أحدّق في السقف المتشقق.
لا أعرف مداخل هذا المكان ولا مخارجه، ولا أملك وسيلة للتنقل، ولا حتى فكرة عن مدى شساعة الأرض التي نُفيت إليها.
ولو كان الهروب منها ممكنًا، لما عُرفت بهذا الاسم…
منفى لا رجعة منه.
“يا لسوء الحال…” ضحكت بسخرية تعبق باليأس.
شعرت بالإهانة، لا لأني انخدعت بمكيدة إيردان، بل لأني تجرأت حتى على التفكير بمسامحته.
“لا، لماذا أتحمّل وزر ما جرى؟”
لم تكن خطيئتي. لم أُقذف في هذا الجحيم لأنني ساذجة أو ضعيفة، بل لأن إيردان خطّط لكل شيء بإحكام.
ذلك الخبيث كان أشدّ دناءة مما ظننت.
“نعم، هم الأوغاد الحقيقيون. ليتهم جميعًا يفنون…” تمتمت بلعنات خافتة وأنا أنهض من مكاني. لن أبقى جاثية أنتظر موتي بصمت.
سأجازف بالهرب، وإن كانت النهاية معلّقة به.
“…؟”
لفت نظري عندها شيء غريب…
حبل يتدلى من عمود خشبي طويل في السقف. مظهره لا يدعو للشك…
“أهذا…
حبل مشنقة؟”
نعم.
مشنقة واضحة، كأن أحدهم أعدّها ليضع حدًا لحياته.
أتراه البارون أوغستين؟ أم أن شخصًا آخر، مثلي، تقطّعت به السبل هنا وبلغ به اليأس هذا الحد؟
“لا… فكّري بهدوء.
لو كانت تخص أحدًا، لأزالوها.
لا تُترك أشياء كهذه معلقة بلا سبب”
وقفت جامدة، وذراعاي معقودتان، أحدّق بعقدة الحبل بإمعان.
“ربما هي آلية ما…”
حاولت الحفاظ على رباطة جأشي، لكن داخلي كان يتهاوى.
ولهذا، تماديت في الحديث مع نفسي.
ومن يلوم من ابتُلي بعقله؟ أنا هنا، في هذا المكان الموحش، عاجزة حتى عن البكاء، بعد أن تلقيت الخيانة من أكثر من أبغض في هذا العالم.
“ربما…
ربما تكون مخرجًا متنكّرًا، وقد صُممت لتبدو مخيفة حتى لا يقترب أحد منها بسهولة”
ولعل هذا ما جعل عقلي ينسج تصوّرات غريبة عن شيء يفترض أن يكون مرعبًا.
“هل عليّ سحبها؟ فقط… سحبها؟”
بابتسامة هستيرية وعيون متسعة، سحبت كرسيًا من الزاوية واقتربت من العقدة.
“وماذا لو انهمر الذهب والفضة عند سحبها؟ هل أستأجر حينها ذات المرتزقة الذين جلبهم إيردان؟” ظللت أُثرثر وأنا أرتقي الكرسي، أقترب شيئًا فشيئًا من الحبل.
كانت العقدة في مستوى رأسي تمامًا.
المكان المثالي لشنق أحدهم.
“لو رآني أحدهم الآن، لظنّ بي ظنًّا لا يُرد” خرجت مني ضحكة هزيلة.
مددت يديّ وأمسكت بالعقدة…
لكن من عساه يراني؟ لو كان هناك من يشهدني، لما وصلت إلى هذا الحد من الانهيار.
“…؟”
وقبل أن أشدّ الحبل، علا من الخارج صهيل جواد وصوت سنابك تضرب الأرض بعنف.
“لقد كُتب لي الفناء…”
شحبت ملامحي.
لا شكّ أن أولئك المرتزقة قد وصلوا.
“ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟”
إن صدق حدسي، فهذه نهايتي.
“لا… لا، هذه هلوسات… مجرد توهّم… أرجوك!”
تعلّقت بأمل ضعيف، مددت عنقي نحو النافذة وأنا ما زلت متمسكة بالحبل، أفتّش بنظري عن أي حركة خارج الجدران.
“…!”
فُتح الباب بعنف، وعندها فقط أحسست بالموت يتربّص بي، وجهي اكتسى بتعبير من سلّم أمره للمصير.
“سيّدتي…؟”
لكن الداخل لم يكن من المرتزقة…
بل وجه أعرفه… ولو من بعيد.
“…الدوق الأكبر؟”
وكانت المفاجأة التي أربكتني أكثر… أن الواقف أمامي لم يكن سوى “تيسكان”، بطل هذه الحكاية وزوج “إيلوديا”.
“سيّدتي!” اندفع نحوي بوجه شاحب
“أرجوكِ، لا تتحركي!”
[الله!!، اتوقع اتوقع حَيكون الطرف الثالث 👈🏻👉🏻]
رمقته بنظرات حائرة، عاجزة عن استيعاب سبب انفعاله، ثم تنبّهت فجأة إلى هيئتي.
“ليس كما تظن…”
همستُ وأنا أُرخي قبضتي عن الحبل ببطء.
“أعلم أن هذا الوضع مربك، لكن صدّقني، ليس كما يبدو”
مسحت راحتيّ المتعرقتين بطرف ثوبي، وأردت النزول عن الكرسي، غير أن الخجل قيّدني.
“فهمت… فقط، انزلي بهدوء”
مدّ تيسكان يده إليّ، وجهه لا يزال يحمل القلق، رغم محاولته التماسك.
لقد فهم الأمور على نحو خاطئ…
ولا غرابة في ذلك.
“انتبهِ لنفسكِ…”
ترددت لحظة، ثم أمسكت بيده ونزلت.
يا إلهي، كم كان هذا المشهد محرجًا.
لم أجرؤ على النظر في عينيه، فخفضت رأسي.
“أتفهّم ما تمرّين به، لكنك تصرّفتِ برعونة”
كلماته فوق رأسي أثقلتني بخزي مضاعف.
“لا… أنا من تأخر في الحضور.
أرجوكِ، سامحيني”
لكن المسألة لم تكن كذلك.
تمنّيت لو انشقت الأرض وابتلعتني.
بدوت كسيدة هجرت من زوجها فلجأت إلى المشنقة!
خيانة إيردان لا تعني أنني سأُنهي حياتي…
بل إن رغبت في قتل أحد، فسيكون هو.
—
“كيف عرفت بمكاني؟” سألت وأنا أمتطي الحصان الذي جاء عليه تيسكان.
كنت حتى تلك اللحظة عاجزة عن النطق، من فرط الحرج.
“حين علمتُ أن إيردان يطالب بالطلاق لأجل إيلوديا، بدأت أراقب قصره سرًا’ قال ذلك وهو يصعد خلفي.
“أدركت أنه سيفعل المستحيل لأجلها… ولم أُخطئ”
لم يحتج أن يُكمل. كنت أفهم ما يقصده.
فحين يتعلّق الأمر بإيلوديا، يصبح إيردان أشرس المخلوقات.
وتيسكان، الذي نازعه عليها طويلًا، يعرف ذلك تمامًا.
“جئت حين علمتُ أن بوابة النقل المؤدية إلى بيتترول قد أُغلقت فور عبورك”
كان صوته يأتيني من خلفي، ممزوجًا بمرارة لا تخطئها الأذن.
“لكن ما علاقة كل ذلك بأن يهتم الدوق الأكبر لأمري؟” سألت، لأشعر باهتزاز خفيف خلفي، وكأن سؤالي باغته.
“لو لم أُطلّق إيلوديا، لما اضطرّك إيردان للطلاق أيضًا”
“…”
“لذا، لا يمكنني الادّعاء أنني بريء تمامًا”
أطرقت رأسي بصمت.
يا لهذا الفرق الشاسع بينه وبين أولئك الأنذال.
إيردان…
الذي تخلّص مني رغم أنني قررت الرحيل مقابل المال.
وإيلوديا… التي صمتت رغم علمها بكل شيء. وتيسكان… مختلف، نقيّ.
لا يشبههم… ولا يشبه ذلك الإمبراطور الفاسد.
“هل كنت تعلم؟”
“ماذا تقصدين؟”
“الأنانيون يرمون أخطاءهم على سواهم… أما الطيّبون، فيلومون أنفسهم حتى في ما لا يد لهم فيه”
مسحت شعري الذي عبثت به الريح وتابعت: “هذا ليس ذنبك، يا صاحب السمو”
“…”
“أعرف طيبة قلبك… لكن أرجوك، لا تضع اللوم على كتفيك.
المسؤول الحقيقي معروف”
“…”
“أنا ممتنّة لك، لأنك لم تُدر ظهرك لضعفي، يا سمو الدوق”
لم يتكلم تيسكان، بل ظلّ صامتًا حتى أنهيت حديثي.
“شكرًا لكِ على كلماتكِ”
قالها أخيرًا بصوت خجول، يوحي بأنه محرج.
“أرجوكِ، لا تدعي هذه الأفكار تستحوذ عليكِ—”
“لا، حقًا، لم يكن ما تظن!”
قاطعته بسرعة، وقد احمرّ وجهي.
من فضلك، انسَ ما رأيت.
لا تراني كمن استسلم لليأس… قلتها في داخلي.
“حسنًا”
وخُيّل إليّ أنني سمعت ضحكة خافتة امتزجت بصوت النسيم… وصداه.
“ظننت فقط أن الحبل آلية للهروب… وعندما سمعت صهيل الجياد، خِلتك أحد المرتزقة، لذا…”
خفضت رأسي وغمغمت بخجل.
“لا تقلقي، لا شيء مغرٍ بالسرقة هنا، فلا خوف من اللصوص”
قالها ضاحكًا بصدق هذه المرة.
“علينا أن نهرب الآن!”
لم أُجادله، بل أمسكت بمعصمه الممسك بلجام الحصان، وقد شحب وجهي من القلق.
التعليقات لهذا الفصل " 32"
كييييف ذيك السحلية تترك هذا الشخص الشهم اللطيف و تروح لذاك!!!!
لكن الأفضل انها تركته لانها ما تستاهل و هو يستاهل شخص افضل 😌✋🏼
ليته هو البطل لان مافيه احذ يستحق بطلتنا مثله..
لا الإمبراطور الي عرف بالي يخطط له زوجها و عطاه الي يبي و لا زوجها الخاين الي ما يستحق شي 🙄