رغم محاولتها كبح انفعالاتها، انسلّ صوتها واهنًا، متحسرًا:
“أنا آسفة… لم أكن أقصد أن أحمّلك عبء كلماتي”
غير أنه أجاب برقة، بصوت تنوء نبراته بالندم:
“بل أنا من يجب ان يُلام.
لم يكن يليق بي أن أفعل ما فعلته”
“لا، أرجوك… لا يستحق الأمر كل هذا”
عانقها إيردان إلى صدره، أسند وجنته إلى رأسها، وراح يربت على ظهرها بطمأنينة، ثم همس وقد غمر صوته دفء خالص:
“أحب قلبك النقي… ذلك القلب البريء الذي لا يعرف إلا اللين.
لا تعتذري إليّ”
[غربان الحب]
وفي أحضان إيردان، المتشحة بالحنان، انبثقت في ذهن إيلوديا صورة وجه زوجها…
الدوق الأكبر تسكان.
“إيلوديا… كم تمنيت لو أنكِ تَعون جيدًا أنكِ دوقة كبرى”
“أدرك أن ما في قلبك شفقة، وأنك صاحبة روح طيبة، لكن طيبتك لا ينبغي أن تكون وقودًا لمعاناة لا مبرر لها”
“بدلًا من الدموع، لمَ لا تفكرين في سبيل للخلاص؟ كلما سارعت لإصلاح ما تعتقدين أنكِ أفسدته، زاد الضرر، واتّسخت سمعتك”
كان يكرر ذلك دائمًا، وهو يزفر بملل وعيناه لا تفارق عبوسه المعهود.
لم يحبّها قط.
لو كان ثمة حب، لاحتواها كما يفعل إيردان الآن.
لو أن بريسيلا لم تكن موجودة…
لربما كانت الآن زوجة إيردان، لا أسيرة زواج تسكان.
عضّت إيلوديا شفتها بقوة، تجرّعًا للغصّة.
لم تكن خيانة، كما ادّعت ليريبيل…
لقد أحبت إيردان قبل أن تراه تلك المرأة حتى.
كان حبًا متبادلًا، صادقًا، غير أن تدخل بريسيلا حرمهما من أن يكونا معًا.
“أنتِ لا تعرفين شيئًا… لم تهيميه كما هويتُه أنا”
ورغم الحب، افترقا مضطرين، مدفوعين بظروفٍ قاهرة.
عانا وذاقا من المرارة ما يفوق الوصف، حتى إن اللقاء بعد كل تلك الأعوام بدا كجرحٍ يُفتح من جديد.
“مقززة”
ترددت صدى تلك الكلمة في رأسها، تلك الإهانة التي قذفتها بها ليريبيل… ونظرتها المتعالية التي أحرقتها.
تلك المرأة التي اقترنت بإيردان دون حب، ثم سحقت كرامة إيلوديا، وأذلّتها، رغم أن إيلوديا ساعدتها، واهتمت لأمرها من أعماقها.
قال إيردان بصوت هادئ، لكنّه مفعم بالحسم:
“نهايتها كانت نتيجة شرّها، لا بسببكِ.
فلا تذرفي دمعةً لأجلها”
شهقت إيلوديا، وأومأت بصمتٍ ثقيل.
لم يكن هناك مبرر للشفقة على من داس بقدميه على آخر شعاع طيبةٍ مُنح له.
لقد كانت نهايتها انعكاسًا لما غرسته، لا بسبب أحدٍ سواها.
—
“…”
وقفت أمام بوابة الانتقال المعتمة، أرمش ببصري. الفراغ يبتلع المكان، لا أثر لأي إنسان.
أهذا حقيقي؟
ارتجفت يدي فوق مقبض الحقيبة، شعور غامض بالتوجس يغمرني، فابتلعت ريقي وخرجت من الغرفة بحذرٍ متوتر.
“آه، وصلتِ؟”
كاد صوت الرجل أن ينتشلني من وُحدتي، فارتخت أعصابي قليلًا.
“أعتذر…
كان ينبغي أن أكون في استقبالك، لكن التوقيت خانني”
“لا بأس”
ابتسم الرجل النحيل، في منتصف عمره، بلطف وقال:
“أنا البارون أوغسطين، المسؤول عن هذه المنطقة”
مددت يدي لمصافحته، لكني توقفت فجأة، وقد ارتسمت على وجهي علامات شكٍّ عميق.
“…البارون أوغسطين؟”
رد بهدوء:
“نعم”
قطبت جبيني وأنا أراقب تصرفه المتزن:
“لكن أخبروني أن الفيكونت كونراد هو من يدير مقاطعة ليتريول حاليًا”
تغيّر تعبيره للحظة قبل أن يقول:
“ألا يزال كونراد في موقع إدارة المقاطعة السابقة لليتريول؟”
“عذرًا؟”
أومأ بلا مبالاة وقال:
“ذلك الرجل تشبّث بالمكان لوقتٍ أطول مما ينبغي”
ثم انحنى ليرفع حقيبة سفر ثقيلة، وتابع:
“بما أنكِ أنهيتِ التفاوض مع الماركيز، سأغادر الآن”
“انتظر!”
ركضت خلفه نحو غرفة البوابة.
“كيف تدّعي أنها المقاطعة السابقة؟ ولماذا أنت هنا؟ لم أُسلّم أي وثائق رسمية!”
ابتسم بهدوء وقال:
“لا شيء يُسلّم هنا، إذ لا يوجد ما يُسلّم أصلًا”
“…ماذا؟”
زفر بتعب، ثم أردف:
“يبدو أنكِ جئتِ إلى هنا من دون أي دراية”
وأكمل بصوت خافت:
“هذه الأرض كانت تُعرف باسم بيتْرول حتى الأمس فقط.
وتعرفين ما يعنيه ذلك، أليس كذلك؟”
تجمّدت في مكاني. بيتْرول؟!
بيتْرول، تلك الأرض المهجورة التابعة لعائلة الماركيز، المساحات القاحلة التي فشلوا في إحيائها قرونًا، فحوّلوها إلى منفى… إلى مقبرة صامتة.
كانت تُستخدم لنفي المجرمين الخطرين، وأرضها الميتة تكفي لقتلهم دون قطرة دم.
“لا عمل هنا يُذكر.
ربما كل بضع سنوات يُطلب منك إرسال مجرم. تضعين السعر وتوافقين”
ضحك، بنبرة مريرة:
“مكان ساكن… هامد تمامًا”
ثم نظر إليّ نظرة ساخرة وقال:
“لكن… ما الذي فعلتهِ للمركيز ليرسلك إلى هنا بلا شرح؟ على كل حال، سأرحل الآن”
مددت يدي المرتجفة وأمسكت بذراعه.
“انتظر، من فضلك”
“نعم؟”
“قلت إن الاسم تغيّر بالأمس؟”
“نعم.”
“هل هذا… مسموح؟”
هز كتفيه مبتسمًا:
“من يدري؟ أنا مجرد تابع تصلني الأوامر”
جهل مطبق.
“عذرًا، لا أجوبة لدي.
لا أعرف شيئًا خارج هذه الأرض.
كل ما يصلني يأتي عبر بوابة الانتقال”
ثم أشار إليها وهي تضيء، وابتسم:
“اعتني بنفسك”
ومع هذه الكلمات… دخل البوابة.
“…”
تابعت بعيني توهّج الضوء… ثم خفوتَه.
هل خدعوني بتغيير الاسم فقط؟
“الأرض خير من الذهب، فالنبلاء دومًا يطمعون بها”
إيردان… هل كنتَ تخطط لهذا منذ البداية؟
ضحكت بمرارة وأنا أزيح خصلات الشعر عن جبيني، ثم شحبت ملامحي.
“الوثائق التي تصل من هذه البوابة…
هي وسيلتي الوحيدة للتواصل”
ركضت نحوها كأنها طوق النجاة. فبمجرد أن أصبحت هذه الأرض رسميًا تحت إدارتي، زال أي رابط بالماركيز.
لم يعد له شأن بها، وبالتالي لا داعي لإبقاء البوابة نشطة…
وخصوصًا إن كانت العزلة هدفًا.
لكن… فات الأوان.
كانت البوابة قد أُغلقت.
والمؤكد أن المقرّ الرئيسي فصل الاتصال بمجرد مغادرة البارون.
تمامًا كما توقعت… لقد أرادوا سجني هنا.
أطلقت ضحكة خافتة وأنا أتهالك قرب القاعدة الباردة للبوابة:
“ذلك الوغد المجنون…”
“اعتني بنفسك”
“قد تواجهين قطاع طرق، كوني حذرة”
تذكرت كلمات إيلوديا… وقفزت من مكاني.
لا يمكن!
هل كانت هذه العزلة مصيدة؟ لاغتيالي بهدوء؟! وهل كانت إيلوديا تعلم؟ لا يعقل أن تنطق بتلك الكلمات مصادفة!
لكن… كيف؟ ظننتُ أن اختفائي سيجعل الشك يطال إيردان أولًا!
كيف تجرأ؟ ما السلطة التي منحته الجرأة؟ ولماذا؟ ما الذنب الذي اقترفته لأُعاقب بهذا الشكل؟ لماذا؟ فقط… لماذا؟
“أنتم…”
اهتز كياني من شدة الغضب المتقد في صدري.
“أيها الأوغاد… اللعنة عليكم!!!”
وصرخت بما تبقى في صدري من صوت، تصرخ في الهواء.
التعليقات لهذا الفصل " 30"
حقير!!!
ارتفع ضغطي ولا توقعت ولا 1٪ انه ممكن يلعب بالطريقه القذره هذي!!