مضت ستة أعوامٍ بين أهالي هذه الماركيزية، قضيتُ العامين الأخيرين منها متقلّدةً منصب اللورد المؤقت، أُدير شؤون الإقليم بكل تفانٍ وإخلاص.
لذا، لم يسعني سوى أن أقلق على هذه الأرض وأهلها، وقد أصبح وريثها الوحيد في عداد المفقودين.
هذا المكان…
كان موطنًا لمن وقفوا إلى جانبي.
وبينما كنتُ غارقةً في دوّامة هواجسي، أفصحت لي رونا عن الجهود المضنية التي بذلها سكان الماركيزية لأجلي، مما زاد من تردّدي.
هل يمكنني حقًّا قتل إردان؟
وهل سيظل هذا الإقليم صامدًا في غيابه، وهو الوريث الشرعي الوحيد؟
لو أنني استسلمتُ لغضبي في تلك اللحظة وأمرتُ بقتله دون تردّد، لربما ندمتُ لاحقًا، لكنني على الأقل ما كنتُ لأشكّ.
أما الآن، وقد وقعتُ في التردّد، فقد آل كل شيء إلى ما هو عليه.
“تبًّا!”
تمتمتُ بغيظٍ، وأطبقتُ أصابعي على رأسي بعصبية.
“إردان”… ذلك الوحش الذي لم يتردّد لحظةً في محاولة قتلي، لم يكن يشبهني في شيء.
كنتُ بشريةً… ولهذا تمزّقتُ بين الصواب والخطأ.
“لا أعلم… حقًّا لا أعلم!”
أرخيتُ قبضتي عن شعري، وزفرتُ تنهيدةً مثقلةً بالضياع.
“مرتين…
سأحاول مرتين فقط، وإن أخفقتُ، فسأتوقف وأبقي على حياة أخيكِ.
هل هذا كافٍ؟”
لكن كلماتي لم تكن موجّهة إلى بريسيلا، بل كانت محاولةً يائسةً لإقناع نفسي.
وإن فشلتُ، فسأستخدم أموال إردان لاستئجار جيشٍ من الحراس، حتى لا يتمكّن من إيذائي مهما حاول.
لقد أخطأتُ منذ البداية.
ما كان ينبغي لي أن أعود إلى هنا أصلًا.
زفرتُ مجددًا، ثم استدرتُ عائدةً بخطواتٍ ثابتة، وقد انقشع عنها كلّ أثرٍ للتردّد.
•••
“اعتنِ بنفسكَ”
وقّعتُ أوراق الطلاق فور استلامي مقاطعة “ليتريول”.
“تتحدثين وكأنكِ سترحلين من القصر في هذا اللحظه”
“وما الذي يمنعني؟”
عند إجابتي، ارتفع حاجباه بدهشة.
“لكن لديّ أمورٌ عليّ تسويتها أولًا”
“تسوية الأمور؟” ردد إردان مستهجنًا، وكأن فكرة امتلاكي لما يستحق الترتيب مستبعدة تمامًا في نظره، بعد أن جئتُ إلى هنا خالية الوفاض.
“سأكتب رسالةً إلى جلالة الإمبراطور، أوضح فيها أن طلاقنا تمّ برضى الطرفين، وأشكره على دعمه، حتى لا يُبدي قلقًا عند مغادرتي”
“…”
“أليس هذا في صالحك أيضًا؟”
راح إردان يراقبني طويلًا، مستندًا بذقنه إلى راحة يده، وكأنه يسبر أغوار جديّتي.
ثم، فجأة، أطلق ضحكةً خافتة.
“إذن، ها أنتِ تغادرين بطريقةٍ نظيفة.
المالُ حقًّا قوةٌ عظيمة”
لم أعلّق على سخريته، بل رمقته بنظرةٍ هادئةٍ، ثم قلتُ:
“أيها اللورد…”
“…؟”
رمش إردان ببطء، غير مستوعبٍ لما سمعه.
“أتدري لماذا كنتُ دائمًا مهذّبةً معك؟”
“ماذا تعنين ب—”
لم يُكمل جملته، إذ قاطعته الحقيقة الجليّة التي نطقتُ بها.
رأيتُ الاضطراب يعلو ملامحه، وكأنه يعجز عن تقبّل ما يسمعه.
“لقد احترمتُك لأرفع من شأني، لا أكثر”
ارتسمت على شفتيّ ابتسامةٌ ساخرة، بينما راقبتُ دهشته المتجمّدة.
“لو عاملتك كما تستحق، وأظهرتُ ازدرائي لك، لكان مقامي كزوجتك عديم القيمة…
تمامًا كما أنت”
“أنتِ—!”
“لهذا السبب، منحتُك احترامًا زائفًا، لا لأنك أهلٌ له، بل لأنني كنتُ أحرص على الحفاظ على قدري.
لا تُسيء الفهم”
“ليريبيل!” صاح باسمي، وقد احمرّ وجهه غيظًا.
“بالطبع، بعد الطلاق، وبصفتي بارونة، يجدر بي إبداء الاحترام للماركيز القادم، لذا…
لن يتكرّر هذا مجددًا”
نهضتُ من مكاني بابتسامةٍ مشرقة.
“أبلغني إن احتجتَ أيّ شيءٍ يخصّ إجراءات الطلاق”
ثم غادرتُ الغرفة دون أدنى تردّد.
لم يكن الطلاق قد اكتمل رسميًا بعد، لذا حرصتُ على قول ذلك.
توقّعتُ أن يحاول إردان إيقافي، أن يجادلني، لكنه لم يفعل.
كلانا كان قد قرّر إنهاء الأمور بطريقةٍ لائقة.
•••
“ماذا أفعل؟”
كانت إلوديا تتجوّل بين الأشجار المحاذية للطريق المؤدي إلى الجناح الملحق، وقلبها يثقل بحمل الكلمات التي تفوّه بها إردان الليلة الماضية.
“تظنين أن الأمر انتهى؟ لن أترك هذه الأرض لتلك المرأة.
ستذهب إلى هلاكها”
عندما شهقت إلوديا من الصدمة، استرخى إردان سريعًا، متظاهرًا بأنه كان يمزح.
لكن نظرة البرد القاتلة التي عبرت وجهه لم تخطئها عيناها.
ماذا لو لم يكن يمزح؟
قضمت إلوديا شفتها السفلى بقلق.
كانت تعلم أن ليريبيل لم تحتفظ بأوراق الطلاق طوال هذا الوقت إلا لضمان تعويضٍ يعادل قيمة الأرض.
كانت امرأةً جشعةً، استغلالية، ولم تتردّد يومًا في إذلال الآخرين للحصول على ما تريد.
لكن…
حتى لو كانت شخصًا سيئًا، هل تستحق الموت؟
لو لم تكن تعرف، لربما لم تكترث.
لكنها الآن على دراية بالخطر الذي يتهدّد ليريبيل، ولم تستطع التغاضي عنه.
شعرت أن موتها سيكون ذنبها…
ذنب قدومها إلى هنا.
نظرت إلى الباب الذي خرجت منه ليريبيل، وشاهدتها تغادر بابتسامةٍ مشرقة، غافلةً عن المصير الذي يترصّدها.
في تلك اللحظة، حسمت إلوديا أمرها.
التعليقات لهذا الفصل " 28"