إيلوديا=إلوديا
إيردان=إردان
وهكذا…
في تلك اللحظة، تبدّلت نظرات ليريبيل خلسة، كأنّ غلالةً من الشكّ انسدلت على قلبها تُجاه إيردان.
قال إيردان بصوتٍ خافت، توارى فيه الأسى تحت نبراتٍ هادئة:
“كان عليّ أن أقوم بهذا لأجل إيلوديا منذ زمن بعيد”
وما إن سقطت كلماته على مسامعها، حتى غابت آثار الشكّ من عينيها، لتحلّ محلّها نظرةٌ مشوبةٌ بالتهكم والاستخفاف.
“سأتولّى الأمر بنفسي.
لنتحدّث لاحقًا”
قالتها، ثم انسحبت، والوثائق في قبضتها.
“…”
ظلّ إيردان وحيدًا، يحدّق في الباب المغلق بإحكام، ثم أرخى جسده على الأريكة واستسلم لتأمّلاته، غائصًا في ذكريات الأيام القليلة الماضية.
“…. “
“آه…
ذاك الأمر؟ أعترف أنّني قصّرت”
قبل أيام، جمعه حديثٌ مع الإمبراطور.
“صحيح أنني الإمبراطور، لكن حتى أصحاب العروش عليهم أن يتظاهروا بالاجتهاد بين الحين والآخر.
وبينما كنت أبحث عن شيءٍ أفعله، وصلتني رسالة من زوجتك، فقرّرت التدخّل”
ثم أضاف بنبرةٍ لاهية:
“تسألني عن سبب تداخلي في شؤونك؟
المسألة ببساطة أنها قضية طلاق—
وما أكثر ما تحدّثت الصحف عنها.
ليست بالأمر الشائك مقارنةً ببقية ما أتعامل معه”
هكذا إذن، تدخّل الإمبراطور كاسروسيان بدافع لا يكاد يتجاوز الملل أو الفضول.
[بطلنا الحلو 🤭]
“المسألة معقّدة فعلًا، والأدلة ضدك دامغة.
فهل من الحكمة أن تعقّد الأمور أكثر؟ لم لا تنهيها بطريقة سلسة؟”
وربّما دفعه شعوره بالحرج من اقتحام خصوصيات أحد النبلاء، أو خشيته من ردّة فعل إيردان، إلى طرح حلٍّ وسط:
“بهذا الشكل، تظفر أنت بما تشاء، ويبدو أنّني أديت واجبي، بينما تنعم زوجتك بوهمٍ زائف لبعض الوقت.
أليست هذه نهاية ملائمة للجميع؟
سأسعى إلى مساعدتك، بما أنّني تسبّبت لك بشيءٍ من الإرباك”
وافق إيردان على الصفقة، ونقل ملكية أراضي ليتريول إلى ليريبيل تعويضًا بعد الطلاق.
“مدعاة للشفقة”
تمتم بها، متخيّلًا ليريبيل منكبّة على الوثائق، تدقّق فيها بجدّ، جاهلةً تمامًا بما يُحاك في الخفاء.
أتراها تظنّ أنّ الإمبراطور في صفّها؟
من أين لها بهذه الثقة العمياء؟
رغم ما بين عائلة فيديليو والعائلة الإمبراطورية من شدّ وجذب، فإنهم يظلون من نخبة النبلاء.
فهل يُعقل أن يُؤْثر الإمبراطور، في قراراته، امرأة نبيلة من رتبة متواضعة لا تملك حتى أرضًا، على ماركيز مرموق مثله؟
“يا لكِ من ساذجة”
ضحك بمرارةٍ شهية، مستلذًا بمأساةٍ كان هو من نسج خيوطها.
—
“…أوه؟”
كلمات إيردان عن إيفائه حقّ إيلوديا لم تكن زائفة. فبالرغم من تمحيصي المتكرّر للوثائق، لم أعثر على ثغرة واحدة تُثير الريبة.
هل كان ذلك بفعل ضغوط مباشرة من الإمبراطور؟
أغلقت الملفّات التي استغرقت مني أيامًا، وتنحّيت عن مسار التحقيق، ثم نهضت ببطء، أتطلّع من النافذة بعينٍ شاردة، كما لو كنت أبحث عن إجابةٍ ضائعة في البعيد.
هل يكفي هذا؟
لم تَعُد إيلوديا في حاجة إلى الانخراط في المواجهة، ولا أنا مُضطرة لمجابهة إيردان وجهًا لوجه.
إن بعت أراضي ليتريول التي نلتُها كنصيب من الطلاق، فسيمكنني أن أكلّف من ينهي حياة إيردان، ويكفي المال المتبقي لأعيش براحةٍ ورفاهية حتى آخر أنفاسي.
لم تكن غايتي قطّ أن أصير سيدةً لتلك الأرض.
فمهما كانت سواحلها فاتنة، فهي محاطة بأراضيه، ومَن يدري ما قد يحدث إن سعيتُ لحكمها؟
نعم، هذا يكفي.
قد نلت ما أردت.
“…”
لكنّ انعكاسي في زجاج النافذة لم يُشبه شخصًا بلغ غايته.
بعثرتُ شعري بأناملٍ متوترة، واستدرتُ مغادرة، متّجهةً إلى قبر بريسيلا.
“لقد جئت”
تطلّعتُ إلى شاهِد قبرها المستدير، الذي بدا غريبًا على شخصيّتها الحادّة، وخاطبتها بجفاءٍ بارد.
لم أكن أتوقّع ردًا، فالأموات لا يجيبون.
“أنا أكرهكِ”
ورغم علمي بأنها لن تردّ، تابعت:
“كرهتك منذ أن وقعتُ عيني عليكِ”
هبّت نسمة خفيفة، فرفعتُ خصلة شعر عن وجهي، وغصت في ذكرياتٍ لا تغيب.
كانت لديّ كلّ الأسباب لأبغض ما فعلته بي، وما فعلته بمن وثقوا بك.
لم يكن صراخي يوم موتك نابعًا من حزن، بل من تَعلّق نشأ مع الوقت، لا حبًّا لك.
“ومع ذلك… لا أُلقي باللوم عليك.
أنا من اختار هذا المصير”
أتذكّر حين أوصتني بريسيلا.
كان بوسعي أن أرفض. حتى إيردان لم يكن راغبًا في الزواج.
ومع ذلك، رضخت…
لأنني كنت جبانة.
كان هذا العالم غريبًا عليّ، وبعد أربع سنواتٍ قضيتها في بيت الماركيز، غدا ملاذي الوحيد.
كنت أخشى البدء من جديد، فجاءت وصيّتها كذريعةٍ للبقاء.
لم تكن لديّ آمال في الحب أو الزواج، ولم أطمح إلى شيء.
ظننت أنّني سأمكثُ قليلاً، ثم أرحل.
حتى لو لم يطلب إيردان الطلاق بعد رحيل بريسيلا، لم أكن أظنه سيمنعني.
“ربّما ضاعت جهودي سُدى، لكنني من اختار هذا الدرب، فلا سبيل للاعتراض”
حتى عندما اختفى إيردان فجأة، واضطررتُ لتولّي مسؤولية السيّدة المؤقتة، لم يكن لزامًا عليّ السهر والمجابهة، لكنني اخترت أن أفعل.
“والآن، بعد سلسلة قرارات خاطئة…
وجدتُ نفسي في هذا المكان، فما نفع الشكوى؟”
ضحكتُ بخفّة، كما لو كنت أُحادثها عرضًا.
“ربّما لم تكوني تدركين أنّ أخاكِ نذلٌ مثلكِ، أو لعلّه أسوأ”
وإن كنتِ تعلمين، وتعمدتِ إقحامي، فسأنتزع ياقتكِ في العالم الآخر.
“لا ألومك على ربط مصيري بأخيكِ الدنيء، فلا تلوميني إن قررتُ التخلّي عن وصيّتك”
لهذا جئت إلى قبرها… لأُعلن هذا بعينه.
لم يكن سهلاً أن أنبذ ما قبلتُ به.
“ثم إنه هو من بدأ بالطلاق، بل حاول قتلي.
فهل يُعقل أن أظلّ إلى جانب رجلٍ تمنّى موتي؟”
هززتُ رأسي في اشمئزاز.
“لا أعلم ما الذي أردتِ تحقيقه من تزويجي إياه، لكنني بذلتُ قصارى جهدي.
فلا تطلّي عليّ في منامي لتعاتبيني.
إن أردتِ العتاب، فزوري أخاكِ، فهو في طريقه إلى الموت على يديّ”
كنت أعلم أن بريسيلا، بعنادها الذي لم يخفت حتى بعد موتها، قد تظهر لي في الحلم.
أردت أن أقطع عليها السبيل.
“…”
صمتُّ لحظة، أُحدّق في شاهِد قبرها.
ومع أنني توقّعت الصمت، فإنني رجوت همسًا، لمحة، أيّ شيء منها.
لكن كما هو متوقّع… لا صوت، ولا أثر.
“سأرسل أخاكِ إلى حتفه.
أما من كلمةٍ أخيرة؟” همستُ متنهدة.
“…”
أدركت مجددًا أنني ارتكبت خطأ.
كان يجدر بي أن أقدّم الطلب وأغادر هذا المكان. وإن عجزتُ ماليًّا، لكان الدين حلًا.
فبسبب بقائي…
بدأتُ أفكّر بأمورٍ لا ينبغي لي التفكير بها.
التعليقات لهذا الفصل " 27"