“هَـهْ… هَـهْ!”
لم تَطُلِ المشادّةُ كثيرًا.
انتزعَ إردانُ يدَ المُعتدي عن عُنُقه.
وفي اللحظةِ ذاتِها، أطاحَ به تحتَ السرير.
“ها! ها! هاها!”
كان لا بُدّ أنّ معصمَ المُعتدي الذي أُمسِكَ بقسوة، وجسدَه الذي طُرِح أرضًا، يؤلمانه، ومع ذلك نهضَ فجأةً وهو يضحك، ثم اندفعَ راكضًا إلى خارجِ الغرفة.
تبعَ صوتهُ القهقهةُ طويلًا، كذيلٍ لا ينقطع.
ومن تلكَ الضحكة، أدركَ إردانُ أنّه امرأة.
“هاه…….”
أخذَ إردانُ يُنظّم أنفاسَه، وهو يلمسُ عُنُقَه.
كان لا يزالُ يشعرُ بالنعاس.
“امرأةٌ مجنونة.”
تمتمَ إردانُ وهو يُميلُ عنقَه يمينًا ويسارًا، بوجهٍ كئيبٍ مُقشعرّ.
لم يكن يعلمُ كيف تسلّلت تلك المرأة إلى غرفته، لكنّ عدمَ قدرتها على الهربِ كان أمرًا جليًّا.
فخارجَ غرفةِ إردان، كان الفرسانُ الحُرّاسُ والجنودُ في حالةِ تأهّب.
ولأنّه كان يعلمُ ذلك، لم ينهضْ على عَجَلٍ ليلاحقَ المرأة.
بعد أن هدّأ أنفاسَه تمامًا ورتّبَ ملابسَه، خرجَ إردانُ بتمهّلٍ من غرفةِ النوم، وعبرَ غرفةَ الجلوس، واتّجهَ نحوَ البابِ المفتوح.
تحديدُ هويّتِها، أو معرفةُ مَن أرسلَها، أو استنطاقُ غايتِها من محاولةِ قتلِه، كلُّ ذلك كان مؤجّلًا.
الأهمّ الآن هو إنزالُ الألمِ اللائقِ بمن تجرّأت على محاولةِ قتلِه.
بهذا التفكير، خرجَ إلى الممرّ.
مُوقنًا أنّه سيرى الفرسانَ وقد قيّدوا المرأة.
“……؟”
لكنّ الممرّ كان خاليًا تمامًا.
لم تكن هناك امرأة، ولا جنديّ، ولا فارس، بل ولا حتى خادم.
أمامَ هذا المشهدِ غيرِ المعقول، حكَّ إردانُ جبهتَه، ثم جلبَ شمعةً من الغرفة وأضاءَ بها الممرّ.
ظنًّا منه أنّ الظلامَ حالَ دونَ الرؤية.
“…….”
لكنّ ما إن أضاءَ المكان، حتّى بدا الخلوّ أوضحَ من ذي قبل.
لم يكن هناك أحد.
طحنَ إردانُ أسنانَه حتى صدرَ صوتٌ حادّ، ثم تحرّك.
وكانت وجهتُه غرفةَ كبيرِ الخدم.
دَقّ—دَقّ—!
استيقظَ نيك مذعورًا على صوتِ الطرقِ العنيفِ الذي شقَّ سكونَ الفجر، وخرجَ على عَجَل.
“أينَ فرساني وجنودي وخدمي؟”
على سؤالِ إردانَ المفاجئ، رمشَ نيك بعينينِ لا تزالانِ غارقتينِ في النوم، ثم تكلّم.
“الخدمُ، على الأرجح، ينامون في الغرفةِ الجانبيّة.”
كان السهرُ طوالَ الليلِ في انتظارِ سيّدٍ قد يأتي أو لا يأتي أمرًا مُرهقًا.
لذلك، اعتادَ الخدمُ غالبًا أن يناموا نومةً خفيفةً في غرفةٍ صغيرةٍ ملاصقةٍ لغرفةِ نومِ السيّد.
“أمّا الفرسانُ والجنودُ فلا أعلم. لم أسمعْ شيئًا خاصًّا من السيّدِ ثيودور…….”
أنهى نيك كلامَه متردّدًا، وهو يراقبُ تعبيرَ إردان.
عضَّ إردانُ على أسنانه.
ففيما يخصّ الفرسانَ والجنود، قد لا يكونُ كبيرُ الخدمِ على علمٍ بالأمر.
فوظيفتُه إدارةُ هذا القصرِ الشاسع، أمّا الإشرافُ على الفرسانِ والجنود فكان من اختصاصِ قائدِ الفرسان.
“أحضِر قائدَ الفرسان.”
“ماذا؟ آه… نعم.”
أرادَ أن يقول: في هذا الفجر؟ لكنّ هالةَ إردان لم تكن عاديّة، فابتلعَ نيك كلماتِه.
“وادرّبِ الخدمَ جيّدًا. كيف يتجرّؤون على التسيّب؟ إن تكرّرَ هذا الأمر، سأحمّلكَ المسؤوليّة.”
“……نعم.”
بدا أنّ إردانَ لا ينوي إراحةَ الخدمِ حتّى أثناءِ نومِه.
ولهذا، لم يكن غريبًا أن يأمرَ بإحضارِ قائدِ الفرسانِ في هذا الوقت.
بعد أن غادرَ إردان، عادَ نيك إلى غرفته، وأخذَ يتنهّدُ بعمقٍ مرارًا، وهو يرتدي ملابسَه على عَجَل.
—
لم يأتِ قائدُ الفرسان، ثيودور، لمقابلةِ إردان.
والخبرُ الذي وصلَ إلى إردان، الذي قضى الليلَ ساهرًا خشيةَ تجدّدِ اقتحامِ المرأةِ المجنونة، كان أنّ ثيودور لن يتمكّنَ من الحضور بسببِ شأنٍ عائليّ.
“ها.
يا لهم.”
أغلقَ إردانُ عينيه المُثقَلَتينِ بالإرهاق، ثم فتحَهما وهو يبتسمُ بسخرية.
ثيودور وتلكَ المرأةُ المجنونة في صفٍّ واحد.
هكذا استقرّ الاستنتاجُ في ذهنِ إردان.
“يبحثونَ عن الموت.”
أنزلَ إردانُ يدَه عن عينيه.
وكان بريقُ عينيه المتكشّفتينِ مرعبًا لا يُوصف.
“أعِدْ توزيعَ الحراسة.”
أمرَ إردانُ نائبَ قائدِ الفرسان، الذي حضرَ بدلًا من ثيودور.
“نعم. سنباشرُ فورًا.”
“وقُل لثيودور: إن لم يُرِدْ أن يُفتَّشَ عن قبرِه، فليتركْ شؤونَ العائلة ويأتي حالًا.”
“نعم؟”
“بلّغه.”
دارَ نائبُ قائدِ الفرسان بعينيه بارتباك، ثم أجابَ بصوتٍ خافت: “نعم.”
“اخرج.”
لوّحَ إردانُ بيده بملل.
كان يودّ، لو شاءَ قلبُه، أن يُرسلَ الجنودَ فورًا لاعتقالِ ثيودور.
لكنّ إردان سلّمَ، على نحوٍ غيرِ رسميّ، سلطةَ حكمِ الإقليم إلى ليريبيل.
وكانت تلكَ السلطةُ تشملُ القيادةَ العسكريّة أيضًا.
وبالتالي، إن حرّكَ الجنود، فستهرعُ ليريبيلُ إليه مُسرعةً للمساءلة.
ومجرّدُ التفكيرِ في التعاملِ معها أشعلَ غضبَه.
وكان مرهقًا لشدّةِ قلّةِ النوم، لذا ازدادَ نفورُه من مجادلةِ تلكَ المرأة.
‘سأنامُ قليلًا أوّلًا.’
ما زالَ أمامه وقتٌ قبلَ الموعدِ الذي حدّدته ليريبيل.
سينامُ أوّلًا، ثم يلتقيها، ويخبرُها بما حدثَ ليلًا، ويطلبُ الإذنَ بتحريكِ الجنودِ للقبضِ على ثيودور ومحاسبتِه…….
“…….”
وبينما كان يتّجهُ إلى غرفةِ النوم، لم يستطع كبحَ غضبِه، فركلَ مزهريّةً بقدمه.
إذنٌ؟
هل عليَّ، أنا سيّدُ الإقطاع، أن أطلبَ الإذنَ من امرأةٍ كهذه؟
“اللعنة.”
تمتمَ إردانُ بالسباب، ثم تمدّدَ على السرير.
لكنّه لم يَنَمْ سريعًا.
ظلّ يلمسُ عنقَه في انزعاج، ويتمتمُ بالشتائم، ولم يغفُ إلّا بعدَ وقتٍ طويل.
—
المكانُ الذي استدعت فيه ليريبيلُ إردانَ كان قاعةَ الاجتماعاتِ الكبرى.
لم يفهمْ إردانُ لماذا دعتْه إلى مكانٍ بهذا الحجم، مع أنّ الحديثَ بينهما فقط.
فالقاعةُ ليست كبيرةً فحسب، بل هي المكانُ الذي يجمعُ فيه إردان، بصفته ربَّ الأسرة، أتباعَه لعقدِ الاجتماعاتِ المهمّة.
‘امرأةٌ فقدتْ صوابَها.’
نقرَ إردانُ لسانَه استياءً، لكنّه توجّهَ إلى هناك دونَ مقاومة.
فدائمًا ما كان الطرفَ المحتاج.
“…….”
ما إن دخلَ القاعة، حتّى تصلّبَ وجهُه عند رؤيتِه للحاضرين.
“ما هذا؟”
نهضتْ ليريبيل، الجالسةُ في الصفِّ الأوّل باستثناءِ المقعدِ الأعلى.
“تفضّل بالجلوس أوّلًا.”
رمقَها إردانُ بنظرةٍ شرسة، ثم حوّلَ بصرَه إلى الأقاربِ والأتباعِ المصطفّينَ بكثافة.
جاؤوا لأنّ ليريبيل طلبتْ منهم ذلك، دونَ أن يستدعيهم هو، ربُّ الأسرة.
شدَّ إردانُ على أسنانه، وتقدّمَ إلى المقعدِ الأعلى وجلس.
“اخرجي.”
قالَ ببرودٍ موجّهًا كلامَه إلى ليريبيل، التي همّت بالجلوس.
“لا أعلمُ كيف جمعتِهم، لكنّكِ لا صلةَ لكِ بهذه العائلة.”
التقتْ عينا ليريبيل السوداوان، الصافيتان كالكريستال، بعينيه.
وفي اللحظةِ ذاتِها، ارتسمتْ على شفتيها ابتسامةٌ ساخرة.
‘أتجرؤ أن تقولَ لي ذلك؟’
كانت ابتسامتها كأنّها تنطقُ بهذا السؤال.
صحيحٌ أنّ طوقَ ‘الطرد’ كان في عنقِ إردان.
وصحيحٌ أنّه سلّمَها سلطةَ حكمِ الإقليم.
لكنّ ذلك كان مشروطًا بعدمِ الإفصاح، أليس كذلك؟
“سنتحدّثُ لاحقًا. اخرجي.”
لم يكن لدى إردان سببٌ يجعله يتصرّفُ بغيرِ ثقة.
‘إن واصلتُ التساهل، ستجلسُ فوقَ رأسي.’
خوفًا من إثارةِ دعاوى جديدة، وبسببِ حاجتِها إلى المال، كان يُجاريها إلى حدٍّ ما، لكنّ هذا تجاوزٌ للحدود.
لم يكن لدى إردان أيّ استعدادٍ للسماحِ لها بتخطي الخطّ الأحمر.
كما أنّه كان ينوي، في هذه الفرصة، تأديبَ الأتباعِ والأقاربِ الذين شاركوا في تصرّفها الأحمق.
‘كما يُتوقَّع من وحش، يصبحُ حسّاسًا عندما يُمسُّ وعاءُ طعامِه.’
ابتسمتْ ليريبيل ابتسامةً لاذعة، وقد أدركتْ أفكارَه.
“ألم تسمعْ قولي: اخرجي!”
صرخَ إردانُ بغضب، حين بقيتْ جالسةً دونَ حراك.
لم يكن بوسعه تحمّلُ هذا الإذلال أمامَ هذا الحشدِ من الحثالة.
“أرى أنّ أهليّتي كافية.”
أخرجتْ ليريبيل خاتمَ ختمِ أسرةِ المركيز، ووضعته على طاولةِ الاجتماع.
فتقلّصَ وجهُ إردان.
‘هذه المرأة……!’
أرادتْ إذلالَه، ولو كان الثمنُ قطعَ ذراعِها؟
“تلقيتُ من إردانَ سلطةَ حكمِ الإقليم، ومعها حقَّ استدعاءِ الأتباع. فلماذا يكونُ جلوسي هنا، بعد أن جمعتُ الأقاربَ والأتباع، مشكلة؟”
لكن، وعلى عكسِ توقّعاتِ إردان، لم يُقطَع ذراعُ ليريبيل.
حينها فقط تذكّرَ إردان أنّه لم يُدرِج في العقدِ بندًا يُلزمها بالكتمان بشأنِ سلطةِ الحكم.
ما تعهّدتْ ليريبيلُ بكتمانِه كان أمرَ ‘الطرد’ وحده.
التعليقات لهذا الفصل " 196"