“لكن إن واصلتم الرفضَ حتّى النهاية…….”
كان بريقُ عيني ليريبيل هادئًا،
لكنَّ العواصفَ التي تعصفُ في أعماقهما كانت جامحةً وعنيفةً.
أكان ذلك لأنّها لم تكن مجرّد امرأةٍ واهنة،
بل من حكمت في يومٍ ما إقليمًا شاسعًا،
ومن عادت من الموت مرّتَين؟
فقد انبعث من ليريبيل ثِقَلٌ مهيبٌ لم يروه فيها من قبل،
حتى إنّ التابعين عجزوا عن فتح أفواههم،
واكتفوا بابتلاع ريقهم الجافّ تحت وطأة الضغط.
“أنا مستعدّةٌ لأن لا أُفرّق بين وسيلةٍ ووسيلةٍ في سبيل هدفي.”
“……!”
“اختاروا.
إمّا أن تسيروا معي حتّى النهاية،
أو تُسقِطوا ربّ البيت عديمَ الأهلية،
وتحافظوا على هذا السلام القائم…
بل وتسعَوا إلى استقرارٍ أفضل.”
لعلّه كان ذلك الضغط الخانق المنبعث منها،
إذ بدت نيّتها في خوض صراعٍ دمويّ معهم أمرًا مرعبًا.
والأسوأ من ذلك،
أنّهم شعروا بأنّ من سينزف ويسقط في النهاية
لن يكون سوى هم.
‘……بصراحة، غياب إردان سيكون أفضل.’
‘فهو عديمُ الكفاءة فعلًا.’
‘وكما قال أنسن،
من يدري إن كان ابنَ قريبٍ حقًّا،
أم طفلًا لا صلة له بالعائلة أصلًا.’
‘الأَولى أن يتولّى اللقبَ من هو أقربُ إلى الدم.’
‘تبًّا…
كنت أنوي انتهاز الفرصة لانتزاع المزيد من الإقطاعات.’
‘إن استمرّ الأمر هكذا،
فقد نخسر حتّى ما نملكه الآن.’
تبادل التابعون النظرات مع المقرّبين منهم،
وشرع كلٌّ منهم في ترتيب أفكاره.
لو لم تكن ليريبيل كونتيسة،
ولو لم تمتلك هذا القدر الهائل من الأراضي،
ولو لم يكن لها ما يُمسك عليها من صِلاتٍ محتملة بالقصر الإمبراطوريّ…
لشارَكوا دون تردّدٍ في هذا المسعى المشروع،
لإقصاء ربٍّ فاسدٍ وعديمِ الأهلية،
حتّى لو أدركوا أنّه في جوهره انتقامها الشخصيّ.
فإردان، في نظرهم،
كان ربًّا بائسًا لا حاجة لوجوده من الأساس.
يُقال إنّ الطمع يجلب الهلاك،
وها هم، وقد أطالوا أيديهم طمعًا،
يقفون على أعتاب كارثةٍ وشيكة.
“مفهوم.”
“نحن أيضًا احتجنا إلى وقتٍ لترتيب أفكارنا.
هاه، يبدو أنّ المرء صار عجولًا مع التقدّم في العمر.”
“لقد كان سعيًا لحماية الأراضي الممنوحة لنا،
فلا تأخذي الأمر بسوءٍ شديد.”
“مهما كان ربّنا سيّئًا،
فهو لا يزال سيّدنا.
تردّدُنا كان أمرًا لا مفرّ منه.
تفهمينا، من فضلك.”
ما إن نطق أحدهم بالموافقة،
حتّى انساق الباقون تباعًا دون تردّد.
“لا أجهل مواقفكم.
وربّما بدوتُ ضاغطةً في حديثي،
لكنّ ما فعلتُه كان من أجل مستقبل هذا الإقليم.
وأنا بدوري أشكركم على تفهّمكم.”
أمالت ليريبيل رأسها قليلًا نحو الجمع.
وبسبب ذلك،
انخفض نظرها إلى ما تحت طاولة الاجتماع،
فالتقت عيناها بعينَي شخصٍ ما.
‘أحسنتِ.’
كان الجالسُ قرفصاء تحت الطاولة،
رافعًا إبهامه، هو كاسروسيان لا غيره.
ذلك الضغط الذي دفع التابعين إلى اتخاذ قرارهم
لم يكن سوى الهالة التي أطلقها كاسروسيان.
فقد غادر القصر الإمبراطوريّ طواعيةً،
وضغط جسده تحت الطاولة،
لينفث مهابةَ الإله دون كبح،
مساندًا إقناع ليريبيل من الخلف.
الانتظارُ بهدوءٍ ورصانةٍ إلى جانبها كان جميلًا،
لكنّ مساعدتها مباشرةً،
ورؤية وجهها عن قرب،
كان أجملَ بكثير.
—
توجّه إردان إلى صالة قمار إيمولِين.
“هذه أوّل مرّةٍ أزور فيها صالة قمار!”
كانت إلى جواره سيّدةٌ شابّة،
وقد احمرّت وجنتاها خجلًا.
كانت إحدى بنات العائلات التي استثمر فيها إردان.
“هل أستطيع اللعب أنا أيضًا؟”
“وما الذي يمنع؟
افعلي.”
“لكن لا أملك مالًا……”
“وما المشكلة؟
أنا هنا.”
“آه!
حقًّا أنت رائع، يا سيّد إردان!”
ابتسم إردان بزهو،
وهو يلفّ ذراعه حول خصر المرأة المتدلّلة عليه.
لقد راقته كثيرًا تلك المرأة
ذات الشعر الذهبيّ الباهر والعينين الخضراوين.
كانت جميلةً بما يكفي
لتنال الإطراء أينما وُجدت،
صغيرةَ السنّ،
ذات قوامٍ مثير.
وإن كان لها عيب،
فهو فقر عائلتها وضآلة شأنها،
لكن ما حاجته إلى النسب
ما دام لا ينوي الزواج؟
‘يكفي أن تكون صالحةً للتسلية.’
مظهرٌ يرفع من هيبته،
وامرأةٌ يمكنه ضمّها متى شاء إن ملّ،
وذلك وحده كان كافيًا ليُغدق عليها بعض المال.
“سيّد إردان!”
كان ذلك حين همّ إردان بالدخول إلى صالة القمار
وهو يصغي إلى كلمات الدلال،
فإذا بامرأةٍ تستوقفه.
التفت إردان والمرأة معًا نحو مصدر الصوت.
“ما هذا؟”
كانت المرأة الملتصقة بإردان هي من تكلّمت.
تأمّلت القادمة من رأسها إلى قدميها
بنظرةٍ مليئةٍ بالدهشة.
“لا تقُل إنّها معارفك؟”
ارتسمت سخريةٌ على شفتيها.
أيعقل أن يكون إردان،
الماركيز العظيم،
على معرفةٍ بامرأةٍ كهذه؟
كانت تلك الفكرة واضحةً في نظرتها
وهي تنظر إلى إردان من أسفل إلى أعلى.
رمقها إردان بنظرةٍ عابرة،
ثم أعاد نظره إلى من نادته.
كانت أودري.
وقفت أودري متردّدةً بوجهٍ متوتّر،
تبدو، كيفما نظر إليها،
عديمةَ الشأن.
موضوعيًّا،
لم يكن مظهرها مختلفًا كثيرًا
عن أيّام قربها من إردان،
لكنّه لم يرَها بائسةً هكذا
إلّا لأنّه كان قد ضاق بها ذرعًا سابقًا.
وفوق ذلك،
فإنّ بريق الثقة
الذي كان يلمع في عينيها
حين ظنّت أنّها امتلكته،
تبدّد،
وحلّ محلّه قلقٌ واضطراب
جعلاها تبدو منكمشةً وضعيفة.
“لا أعرفها.”
نقر إردان لسانه بضيق،
ثم تجاهل أودري وتابع سيره.
“هه.”
ضحكت المرأة الملتصقة به بخفّة،
وتأمّلت أودري بنظرةٍ شامتة.
“أرجوك، اسمعني!”
صرخت أودري بصوتٍ حادّ.
بعد أن خسرت إردان،
وخسرت السلاح الذي كانت تعوّل عليه
لتحطيم ليريبيل،
قضت أيّامًا وهي تمزّق شعرها تفكيرًا،
ساعيةً لرسم مستقبلٍ مشرقٍ من جديد.
بعد أن ذاقت وهمَ كونها زوجةَ إردان،
لم تعد قادرةً على العودة
إلى حياةٍ عاديّةٍ رتيبة.
أرادت، بأيّ ثمن،
انتزاع تلك الحلاوة الوهميّة مرّةً أخرى.
وبعد تفكيرٍ طويل،
توصّلت إلى فرضيّةٍ واحدة.
‘……نعم.
هذا يكفي.’
إن قالت هذا لإردان،
فستتمكّن من استعادته.
لهذا جاءت إليه،
ولهذا رفعت صوتها بيأسٍ
وهي تلحق به.
“ليريبيل…
ليريبيل ليست هي نفسها!”
توقّف إردان عند سماع صراخها خلفه.
“ليست هي نفسها؟”
حين رأت أودري أنّه يصغي،
تهلّل وجهها.
نظرت حولها بتوتّر.
“ليس هذا مكانًا مناسبًا للحديث……”
كان مدخل صالة القمار
مكتظًّا بالناس،
ولا يصلح إطلاقًا
للأحاديث السرّية.
انتهى نظر أودري عند المرأة
الواقفة إلى جوار إردان.
تطاير الشرر بين عيني المرأتين
وهما تتبادلان النظرات.
“تكلّمي هنا.”
“اشرحي.”
ارتعشت أودري من نبرة الضجر،
فتراجعت عن طلب تغيير المكان،
وفتحت فمها بحذر.
“كنتُ قريبةً من ليريبيل منذ صغرنا……”
“اتركي المقدمات،
واختصري.”
أطبقت أودري فمها،
وأخذت تعيد ترتيب كلماتها سريعًا.
“ليريبيل التي أعرفها
ليست ليريبيل الحالية.”
تقلّصت حدقتا إردان.
كان واضحًا أنّه لا يفهم.
‘ولِمَ طلب الإيجاز أصلًا…’
تمتمت أودري في سرّها،
لكنّها لم تُظهر استياءها.
فالطرف المحتاج كانت هي.
“إمّا أنّها استُبدلت بشخصٍ آخر،
أو أنّها فقدت ذكرياتها.”
تعمّق التجعّد العموديّ بين حاجبي إردان.
“بما أنّ الشكل واحد،
فربّما فقدت ذاكرتها……”
أنهت أودري كلامها بصوتٍ خافت،
تترقّب ردّة فعله.
كما قالت،
لم تكن ليريبيل الحالية
هي تلك التي عرفتها أودري.
الشكل نفسه،
لكنّ الأفعال مختلفةٌ تمامًا.
إلى حدّ يمكن معه الجزم
أنّها شخصٌ آخر.
صحيحٌ أنّ فترة الانقطاع بينهما
قد تكون كافيةً لتغيّر شخصيّة ليريبيل،
فقد عاشتا معًا
مرحلة المراهقة فقط.
ربّما نضجت ليريبيل
وتبدّلت مع السنين.
لكنّ الإحساس بالغرابة
لم يفارقها.
مهما تغيّر الإنسان،
هل يمكن أن يتغيّر إلى هذا الحدّ؟
ثمّ……
التعليقات لهذا الفصل " 187"