لم يستطع أن ينبس بكلمةٍ واحدةٍ عن كون الأمر غريبًا.
لقد فُتِنَت بليريبيل الظاهرة خلف أداة الاتصال إلى حدٍّ أعماها وأطار تفكيرها.
“عندما تعود، يجب أن نتحدّث.”
تردّد كاسروسيان قليلًا، ثم حسم أمره.
ليريبيل لا تملك أصلًا أيّ ذكرى عن استخدامها للسحر الأسود، فهل سيكون للكلام فائدة غير إثقال قلبها بالحيرة؟
هي مشغولة بما فيه الكفاية أصلًا، ولم يكن من المرغوب تعقيد أفكارها أكثر.
قالت إنّ الأمر سينتهي قريبًا، لذا فلينتظر حتّى تنتهي من عملها، وحينها يتحدّثان.
وضع كاسروسيان الحجر الصغير في صدره.
فمكانه الأقرب إلى قلبه هو الأكثر أمانًا.
“فلأبدأ بما أستطيع فعله الآن.”
ثم سحب أمامه الوثائق التي كان قد أجّلها قليلًا.
الانتظار بهدوء أمرٌ حسن، لكن إن انتظر وهو يعمل على ما يفيد ليريبيل، ألن تحبّه أكثر؟
لم تطلب منه ذلك يومًا، لكن من أجل أن ينال منها قدرًا أكبر من الحبّ، قرّر كاسروسيان أن يعمل بجدّ.
وللمرّة الأولى منذ اعتلائه عرش الإمبراطورية، شعر بأنّ العمل ممتع.
—
“أأنت هنا أيضًا؟”
“همم. يبدو أنّه لم يستدعِنا نحن فقط، بل باقي التابعين أيضًا.”
“ما الأمر برأيكم؟”
“ومن يدري؟ كأنّي أعلم.”
تبادل التابعون الذين تجمّعوا في قصر الماركيز النظرات، وقد بدت عليهم الحيرة.
كانوا تابعين حصلوا على إقطاعاتهم من الماركيز فيديليو، وبمجرّد أن يستدعيهم، كان عليهم الحضور دون تخلّف ما لم يكن لديهم عذرٌ قاهر.
وكان لزامًا عليهم أيضًا حضور الاجتماعات التي يعقدها الماركيز فيديليو، لكنّه نادرًا ما دعا لاجتماع من أجل مناقشة شؤون بريسيلا أو إردان أو أمور الإقليم.
باستثناء قضيّة ليريبيل السابقة.
لذا لم يكن غريبًا أن يثير الاستدعاء المفاجئ من إردان استغرابهم.
“الآن بعد أن أفكّر بالأمر، يبدو أنّه استدعى فقط التابعين الذين نالوا إقطاعات.”
“صدقت.”
وفوق ذلك، فقد استُبعد باقي التابعين والأقارب، ولم يُدعَ سوى أصحاب الإقطاعات، ممّا زاد الريبة.
وحين بدا أنّ الجميع قد حضروا تقريبًا،
فُتح باب قاعة الاجتماع، وظهر شخصٌ واحد.
“همم.”
مع دخول ليريبيل، أبدى بعضهم امتعاضهم صراحةً.
لقد لبّوا نداء السيّد الإقطاعي على عجل، فإذا بالحاضر ليس سيدة القصر، بل مجرّد ضيفة.
وفوق ذلك، فإنّ تلك الضيفة لم تكن سوى قطّةٍ برّيةٍ تتربّص بأمر فيديليو الإقليمي.
لم يكن استياؤهم بلا مبرّر.
“أين ذهب السيّد إردان، ولماذا تدخل الكونتيسة بدلًا عنه؟”
“لقد جئنا استجابةً لنداء السيّد إردان.”
جلست ليريبيل في المقعد الأعلى في القاعة بسلاسة، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة.
“أنا من استدعاكم.”
سكن المكان لحظةً عند تصريحها.
“ما هذا الكلام؟ إن لم يكن السيّد إردان قادمًا، فسأغادر.”
نهض أحد التابعين بعنف، مُحدثًا صوتًا مدوّيًا.
وأيّده بعضهم في حركته.
“هل المشكلة أنّني أنا من استدعاكم؟ أم أنّ المشكلة هي…….”
بصوت ليريبيل الهادئ، توقّف أولئك الذين كانوا على وشك الخروج، واستداروا نحوها.
“أن يكون هذا هو موضع المشكلة.”
“هذا……!”
ما أخرجته ليريبيل بهدوء كان ختم أسرة الماركيز.
“لماذا تحمل الكونتيسة ذلك؟”
“لقد استلمته.”
“ماذا؟”
تعزّزت ابتسامتها الوادعة أكثر.
“لأنّي تسلّمتُ سلطة حكم الإقليم.”
“ما هذا الهراء……!”
“وتعلمون جميعًا أنّ سلطة الحكم تتضمّن أيضًا حقّ استدعاء التابعين، أليس كذلك؟”
بدأت الهمهمات تعلو في القاعة.
وعند التفكير بالأمر، لم يتلقَّ أحدهم أمرًا مباشرًا من إردان بالحضور.
لقد جاؤوا بعد تلقّيهم رسالة استدعاء مختومة بذلك الختم.
أيعقل أنّ إردان سلّم حقّ حكم الإقليم لشخصٍ لا علاقة له بالإقليم أصلًا؟
أم أنّ تلك المرأة سرقته؟
بل، حتّى لو سرقته فالمصيبة أعظم.
أن يُترك الختم ليسرق أصلًا مشكلة، لكن أن تُستدعى التوابع بختمٍ مسروق دون أن يعلم السيّد بذلك؟
ذلك ليس مجرّد عجز، بل تفاهة.
أن يعجز المرء عن صون ما يملكه لا يستحقّ حتّى أن يُسمّى عجزًا.
“يبدو أنّكم ستصابون بصدمةٍ أكبر بعد قليل.”
لوّحت ليريبيل بيدها، فتقدّمت لونا التي كانت تنتظر حاملةً رزمة أوراق.
وزّعت الأوراق على التابعين.
“ه-هذا……!”
“ما الأمر؟”
تعالت الاضطرابات بين من تسلّموا الأوراق أوّلًا.
أمّا الذين لم تصلهم بعد، فقد نظروا إليهم بريبة، وما إن استلموا أوراقهم حتّى أبدوا ردّة الفعل ذاتها.
وثائق تفيد باقتراض المال مقابل رهن قلعة ويغ، وقلعة ماستيل، وقلعة تليُون.
وفي الأسفل، وُضع توقيع إردان وختمه الشخصي، بوصفه مالك القلاع.
“لا حاجة لأن أشرح لكم بالتفصيل ما يعنيه هذا الأمر لكم، وأنتم نبلاء تابعون مكتملو الصفة، أليس كذلك؟”
وبعد أن وصلت الأوراق إلى الجميع، فتحت ليريبيل فمها.
“إنّ تسليم القلاع، وهي منشآت عسكرية، يحمل في ذاته شبهة نيّة التمرّد.”
وبابتسامةٍ خفيفة، واصلت حديثها بكلّ أريحيّة.
“وفوق ذلك، فإنّ تسليم قلعةٍ أُنشئت أصلًا لاستخدامها كنقطةٍ استراتيجية في مدينةٍ حصينة، لا يختلف عن تسليم المدينة الحصينة بأكملها، وهذا أمرٌ تعلمونه جيّدًا.”
كانت المدينة الحصينة تتكوّن من قلعةٍ مركزية وأسوارٍ خارجية.
وكان المقصود بالقلعة يشمل القلعة المركزية والأسوار المحيطة بها.
أي أنّ تسليم القلعة يُفسَّر بما يكفي على أنّه تسليم المدينة بأكملها، أي تسليم إقليمٍ منحه الإمبراطور نفسه.
“هل تعمّدتِ إقراض السيّد إردان المال وأخذ مثل هذا الرهن؟ ألتبتزّينا بهذا؟”
سأل أحد التابعين بصوتٍ غاضب.
“نعم.”
أجابت ليريبيل بوجهٍ صافٍ، وكأنّ الكذب لا يستحقّ العناء.
أُطبق الصمت على أفواههم عند ردّها السلس، فتابعت:
“صحيح أنّني أقرضته المال مقابل الرهن، لكن من قرّر تسليم القلاع هو إردان. أهذا فقط؟ لقد سلّمني حتّى سلطة حكم الإقليم. إنّه غبيّ، مثير للشفقة، وسيّئ كسيّد إقطاعي.”
“هذا لأنّكِ……!”
“نعم. لقد استخدمتُ الحيلة. لكن لو كان يملك عقلًا من الأساس، هل كنّا وصلنا إلى هذه النتيجة؟”
حرّف التابع الذي حاول الاعتراض نظره وملامحه مشوّهة.
فحول تفاهة إردان، لم يكن لديه ما يقوله.
“لقد تجاهلتم اقتراحي باستبدال هذا السيّد الفاشل، وكأنّكم لم تسمعوه أصلًا. لم أقل إنّي سألحق بكم ضررًا، ولا إنّي سأقبض على الإقليم.”
“وكيف نصدّق كلام الكونتيسة!”
“صحيح! لقد تحالفتِ مع القصر الإمبراطوري وخضتِ دعوى، فكيف نثق بكلامك!”
“ولهذا قلت إنّي سأكتفي بدور الوصيّ. وصيٍّ يمكنكم إقصاؤه متى شئتم بعد التشاور.”
راقبت ليريبيل التابعين وهم يصرخون بأنّهم لا يصدّقون حتّى ذلك، فسخرت بضحكةٍ قصيرة.
“لنكن صريحين. لقد أردتم انتزاع مزيدٍ من السلطة أو المال من خلال اقتراحي.”
“كيف تجرؤين على التفوّه بهذا الهراء بحقّنا!”
نهض أحدهم وهو يضرب الطاولة بكفّه، عاجزًا عن كبح غضبه.
“صحيح. نحن لن نثق ببعضنا، ولن نفهم بعضنا أبدًا. ولهذا لم يكن أمامي خيار.”
ابتسمت ليريبيل، ولوّحت بالأوراق بخفّة.
“فكّروا مليًّا، ثم اختاروا. إن تعاونتم مع اقتراحي وأسقطتم إردان، فسأكتم هذا الأمر مدى الحياة، وستواصلون أنتم العيش في أقاليمكم كما كنتم. لن يتغيّر شيء سوى استبدال سيّدٍ واحدٍ فاشل.”
وضعت الأوراق جانبًا، وزالت الابتسامة عن وجهها.
“أمّا إن رفضتم اقتراحي، فسأحمل هذا وأذهب للقاء الإمبراطور. ذلك الإمبراطور الذي تعتقدون أنّه سندكم الخفيّ، والذي تظنّون أنّه يتربّص بإقليم فيديليو طمعًا.”
“يا لحقارتكِ……!”
“وكيف نضمن أنّ الكونتيسة ستفي بكتمان الأمر؟”
“لو كنتُ أطمع فعلًا بإقليم فيديليو، أو جئتُ بتكليفٍ سرّي من جلالته، لذهبتُ إليه فور حصولي على هذه الأوراق.”
قالت ليريبيل ذلك بنبرةٍ هادئة، وعيناها منخفضتان.
وبتلك الكلمات، بدأ الشكّ الثقيل في عيونهم يتلاشى تدريجيًّا.
صحيح.
لو كانت شكوكهم هي الحقيقة، لما احتاجت إلى عرض هذا الأمر عليهم أو محاولة التفاوض تحت غطاء التهديد.
“منذ البداية، كان هدفي واحدًا فقط. إقصاء إردان عن منصب الماركيز، لأنّ وجوده بحدّ ذاته أذًى لإقليم فيديليو الذي تحمّلتُ مسؤوليته يومًا.”
رفعت ليريبيل عينيها، وجالت بنظرةٍ حادّة في أرجاء القاعة.
التعليقات لهذا الفصل " 186"