“أجئتِ مع إردان؟”
ألم ينتهِ الأمر بينها وبين أودري؟
كانت عينا ليريبيل، وهي تنظر إلى أودري، مغمورتين بشكٍّ كثيف.
لم تكن لليريبيل أيّ صلةٍ بقصر الماركيز في العاصمة، ولولا ذلك لما عرفت أصلًا كيف يقضي إردان أيّامه هناك.
لكنّها عرفت ما جرى بين إردان وأودري بفضل كبير خدم القصر الرئيسي في الإقطاعيّة، نيك.
فالقصرُ العاصميّ كان على تواصلٍ دائم مع نيك، كبير خدم القصر الرئيسي، حرصًا على خدمة الماركيز الذي يقيم غالبًا هناك بكلّ إخلاص.
وبذلك اطّلع نيك على ما يجري في العاصمة، ونقل كلّ ما عرفه إلى ليريبيل.
ولهذا السبب كانت ليريبيل على علمٍ حتّى بمحاولة إردان طرد أودري.
لذا، حين خرجت لترى من الضيفة التي جاء بها إردان، ثم وجدت أودري أمامها، لم يسعها إلّا أن تشعر بالحيرة.
“حسنًا، لا بأس.”
سرعان ما صرفت ليريبيل هذا الشكّ جانبًا.
سواء كان إردان يواعد أودري أو يلهو معها أو حتّى يجلبها إلى القصر، فذلك لا يعني ليريبيل في شيء.
“المهمّ… هل حصلتِ على الاستثمار كما يجب؟”
كان الأهمّ أن تكون أودري قد نالت استثمار إردان بسلام، فلا تعود تبتزّها بعد الآن.
فمن أجل ذلك بالذات ربطت ليريبيل بين أودري وإردان.
“أنتِ……”
حدّقت أودري في ليريبيل بنظرةٍ شرسة.
“……؟”
نظرت ليريبيل إليها بذهولٍ خالص، وقد فاجأها ذلك العداء الصريح.
ما بالها هذه؟
لبّيتُ لها كلّ ما طلبت، فلماذا تنظر إليّ كأنّها تريد قتلي؟
مع أنّ من تعرّض للابتزاز ودفع المال كانت أنا.
……أترى انكشف الأمر؟
“من تكونين أنتِ أصلًا.”
وبينما كانت أودري تحدّق بها بنظرةٍ قاتلة، ورييريبيل تتلقّى تلك النظرة ببرود، انفجرت أودري بالكلام.
“من تكونين حتّى تسألينني إن كنتُ جئتُ مع إردان، أو لماذا أنا هنا؟”
متى سألتكِ لماذا أنتِ هنا؟
ارتسم الذهول على وجه ليريبيل.
“من تكونين أنتِ!”
صرخت أودري في وجه ليريبيل المربكة.
“بأيّ حقّ تسألينني مثل هذه الأسئلة؟!”
منذ أن بدأ إردان يلتقي بنساءٍ أخريات وهي معه.
ومنذ اللحظة التي تحطّمت فيها توقّعاتها بأن تصبح زوجته المحبوبة، زوجة الماركيز.
كانت أودري تراكم غضبها بصمت.
ربّما كان ذلك احتقارًا للذات.
غضبًا من كونها شخصًا تافهًا لا يحقّ له حتّى أن يحلم.
وفوق ذلك، كان إردان يتجاهلها، فزاد الغضب اشتعالًا.
غضبٌ لا تجرؤ على تفجيره في وجه إردان، امتزج بعقدة نقصها، وبدأ ينهش أعماقها.
وما إن رأت ليريبيل، حتّى انفجر كلّ ما راكمته دفعةً واحدة.
“هل تعرفين من أكون؟
هاه؟
أتدرين من أكون حتّى تتجرّئي هكذا؟!”
هل انفجر غضبها كالبالون لأنّ كلمةً من ليريبيل وخزته؟
أم لأنّها رأت في ليريبيل شخصًا تعرف ضعفه، فبدت لها فريسةً سهلة؟
لم تكن أودري تعرف سبب اندفاعها على ليريبيل.
لكنّها لم تُرِد كبح غضبها أيضًا.
وما المشكلة في أن تفرغه في ليريبيل؟
“ومن تكونين أنتِ؟”
قالتها ليريبيل ببرود، وهي تنظر إلى أودري بنظرةٍ مستغربة.
“أسأل بصدق.
من تكونين أنتِ لتتصرفي هكذا؟”
رغم أنّها كانت تتلقّى إهاناتٍ فجّة بلا سبب، بقيت ليريبيل هادئة على نحوٍ لافت.
كانت تنظر إلى أودري بنظرة فضولٍ صريح، لا أكثر.
“تسك!”
زاد هدوء ليريبيل، وكأنّ الأمر لا يعنيها، من اشتعال غضب أودري.
وزاد الأمر سوءًا أنّ الخدم الذين كانوا على وشك الانصراف وقفوا على أطراف القاعة، ينظرون إليها وكأنّها مشهدٌ شاذّ.
“أنا المرأة التي ستصبح سيّدة هذا القصر!”
مع صرخة أودري الغاضبة، عمّ الصمت القاعة.
وتجمّد وجه ليريبيل، الذي كان هادئًا طوال الوقت، لوهلة.
شعرت أودري بنشوة نصرٍ غريبة.
لكنّها لم تدم طويلًا.
“حسنًا.
مبارك لكِ.”
بادرتها ليريبيل بالتهنئة بسهولة، لكنّ تعبيرها لم يكن تعبير شخصٍ يهنّئ حقًّا.
كان في وجهها مزيجٌ من الشفقة والارتياح.
ففي الحقيقة، كانت ليريبيل تشفق على أودري التي ستتزوّج رجلًا مجنونًا مثل إردان.
وفي الوقت نفسه، شعرت بالاطمئنان لأنّها، حتّى لو كُشِف أمر إيلوديا وطُرِدَت لعدم حملها طفلًا، فلن تُضطرّ هي للزواج من إردان.
“ومن تكونين أنتِ حتّى تبقي هنا؟
أنا من سيصبح السيّدة، فلماذا تتصرّفين وكأنّكِ السيّدة؟
ما موقعكِ هنا أصلًا؟!”
استعادت أودري حدّتها، بعد أن ارتبكت لحظة من تهنئة ليريبيل الغريبة.
نعم.
أنا سيّدة هذا المنزل.
ومن حقي أن أكون واثقة.
“راعية؟”
مالت ليريبيل برأسها متحيّرة.
لم يكن هناك توصيفٌ دقيق لمكانتها هنا.
فلها سلطة على الإقطاعيّة، لكنّ ذلك سرّ.
وليست مجرّد ضيفة، إذ إنّ لها أعمالًا كثيرة.
ومعاملتها تكاد توازي معاملة سيّدة المنزل أو ربّ الأسرة.
“ها!
راعية؟”
قهقهت أودري بسخرية، ثم وخزت كتف ليريبيل بإصبعها.
“مالكِ التافه استُثمر كلّه بالفعل في الإقطاعيّة.
فلماذا تبقين هنا؟
ما الذي تطمعين به؟”
“همم…….”
“إن انتهى غرضكِ فاخرجي!
ولا تتصرّفي كسيّدة المنزل!”
“هممم…….”
“أتظنّين أنّ أحدًا لا يفهم نواياكِ؟
تحاولين إغواء إردان من جديد لتتزوّجيه، أليس كذلك؟
حاولتِ شراء قلبه بالمال؟
امرأة ماكرة وقذرة!”
“لا.
ليس هذا ما في الأمر.”
تردّدت ليريبيل، ثم نفت فورًا محاولتها إغواء إردان.
لم تُرِد على الأقل أن تُفهَم على هذا النحو.
“إذًا ارحلي!
اخرجي من هنا!
أيعقل أن أتحمّل، أنا سيّدة الدار المقبلة، أن أرى ضيفةً تتصرّف وكأنّها السيّدة؟
ألديكِ ذرة كرامة أو حياء، فارحلي من تلقاء نفسكِ!”
كانت أودري تدفع كتف ليريبيل مرارًا وهي تصرخ.
“كفى، من فضلكِ.”
تدخّلت رئيسة الخدم، وقد عجزت عن الاحتمال أكثر.
“هذا قصر ماركيز فيديليو.
أرجو الكفّ عن إثارة الفوضى.”
كان في تصرّفها قصدٌ لحماية ليريبيل.
لكنّها في الأصل امرأة تلتزم بالمبادئ.
فهي وإن لم تُبدِ ودًّا لإيلوديا، إلّا أنّها عاملتها دائمًا بلياقة.
لذا، لم يكن تدخّلها دفاعًا عن ليريبيل لذاتها، بل لمنع شجارٍ وفوضى بين الضيوف داخل القصر، وهو واجبها الطبيعي.
لكنّ أودري، وقد فقدت صوابها، لم ترَ الأمر على هذا النحو.
“ها، هاهاها!
ما هذا العبث؟!”
لم ترَ في تصرّف رئيسة الخدم سوى تجاهلٍ لها، وحمايةٍ لرييريبيل.
رفعت أودري يدها دون تردّد.
وللمرّة الأولى، تجمّد وجه ليريبيل، التي كانت هادئة مهما قيل لها.
‘الطبع يغلب التطبع.’
بعدما تجرّأتِ على ضرب رونا ونلتِ شتائمكِ، ما زلتِ لم تتعلّمي.
لأنّي سكتُّ عنكِ، حسبتِني بلا حول.
أحسنتِ الوقوع.
سأضربكِ ضربًا يُنسيكِ ضعفكِ وكلّ شيءٍ آخر.
إن تلقّيتُ الضربة بدلًا من رئيسة الخدم ثم رددتُها، فسيكون دفاعًا عن النفس.
وسأفعلها دفاعًا عن النفس… وبحقّ.
كانت ليريبيل، بوجهٍ متجمّد، توشك أن تتقدّم لتحجب رئيسة الخدم، حين دوّى صوتٌ حادّ من الأعلى.
“ما الذي يحدث هنا.”
اتّجهت أنظار الجميع في القاعة إلى الدرج دفعةً واحدة.
ومنهم أودري، التي كانت ما تزال رافعة يدها.
“إ، إردان…….”
ما إن رأت أودري ملامح إردان القاسية، حتّى أنزلت يدها على عجل.
“ها.”
لكنّ إردان كان قد رأى كلّ شيء.
رأى يد أودري المرفوعة كأنّها تهدّد بالضرب، ورأى ليريبيل واقفةً أمامها.
نزل إردان الدرج بخطواتٍ واسعة، واتّجه مباشرةً نحوهما.
“هل أنتِ بخير؟”
حين سألها بنبرةٍ قلقة، أشرق وجه أودري.
آه، إذًا لم يكن يوبّخني.
كان غاضبًا من ليريبيل التي تجرّأت على منعي.
‘يا إلهي، أفزعتني.’
ابتسمت أودري ابتسامةً لطيفة، وهمّت أن تقول إنّها بخير.
لكنّ—
“هل أصابكِ أذى، ليريبيل؟”
كانت خطوات إردان وكلماته موجّهة إلى ليريبيل، لا إلى أودري.
سواء تصلّب وجه أودري أم لا، أمسك إردان بكتفي ليريبيل محاولًا تفحّصها.
“لا.”
لكنّ ليريبيل رفضت اهتمام إردان، الذي طالما تمنّته أودري، بتراجعها خطوةً إلى الخلف.
“الحمد لله.”
توقّف إردان لحظةً، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ارتياح.
وبعدها، انقلبت ملامحه فجأة، واستدار نحو أودري بوجهٍ قاسٍ.
“بأيّ جرأةٍ تفعلين هذا بليريبيل.”
التعليقات لهذا الفصل " 182"