تلك المقتنيات الثمينة التي كان يشتريها بلا طائل،
لوحات، وزخارف، وتماثيل فنيّة،
بل وحتى قطعًا أثريّة ذات قيمةٍ تاريخيّة.
كانت كلّها باهظة الثمن إلى حدّ يصعب تقدير قيمته،
وملقاة في قصر الماركيز كأنّها أشياء تُداس بالأقدام.
لا أعلم إن كان ذلك لأنّي لم أذكر سوى العقارات،
أم لأنّه اشتراها ثم نسي وجودها كلّيًّا.
لكنّ إردان لم يُقدِم على بيعها ولا على رهنها.
‘لعلّه أصلًا لا يملك وعيًا بأنّ الأشياء التي أنفق عليها مبالغ طائلة يمكن أن تتحوّل إلى مال.’
في الأوقات التي كان إردان يغيب فيها،
كنتُ أتصرّف بتلك المقتنيات التي قد تصبح يومًا ملكه،
وأقوم ببيعها بهدوء.
وحتى لا يلاحظ الأمر،
كنت أضع مكانها قطعًا مزيّفة متقنة الصنع.
خدم بيت الماركيز،
الذين كانوا أصلًا يميلون إليّ،
صاروا في صفي تمامًا بعد أن سُدِّدت رواتبهم المتأخّرة كلّها.
ولهذا،
سارت هذه السلسلة من الأمور بسلاسةٍ لا تعوقها عقبة،
كالماء المنساب.
أمّا المشرفون المتوسّطون الموالون لآل فيديليو،
ككبير الخدم ورئيسة الخادمات،
فقد تعاونوا معي طوعًا حين أخبرتهم أنّي لن أبيع سوى ما اشتراه إردان بنفسه،
وأنّ العائد سيُستثمر في الإقطاعيّة.
لم تكن تلك ممتلكاتٍ متوارثة عن آل الماركيز،
ولهذا لم يعترضوا.
كان ذلك دليلًا واضحًا على مدى انعدام الثقة بإردان كسيّدٍ للإقطاعيّة.
‘وإن اكتشف الأمر لاحقًا،
فبإمكاني الادّعاء بالجهل،
وسيفترض وحده أنّه من فعل غيلبرت.’
ابتسمتُ ابتسامةً ذات نكهةٍ مريبة.
حقًّا،
لماذا أعدتَ ذلك اللصّ إلى القصر؟
بالنسبة إليّ،
من الجيّد أنّي أستطيع تحميل كلّ شيءٍ لغيلبرت.
“لديك زائر، السيدة ليريبيل.”
كنتُ جالسةً قرب النافذة أستمتع بهدوء الشمس،
حين نقل إليّ كبير الخدم خبرًا غير متوقّع.
“……زائرٌ لي أنا؟”
بات مجرّد سماعي بأنّ أحدًا يبحث عنّي يبعث القلق في نفسي.
كأنّ مصيبةً ما قد وقعت.
“نعم، صاحب السموّ الدوق حضر ليسأل عنك. ”
اللقب الذي خرج من فمه
كان مفاجئًا بقدر خبر الزيارة نفسه.
‘تيسكان؟ ولماذا؟’
رمشتُ مرّتين،
ثمّ وضعتُ فنجان الشاي جانبًا ونهضتُ على عجل.
لا بدّ أنّ أمرًا ما قد حدث.
كنتُ قد أنهيتُ علاقتي التمثيليّة مع تيسكان
قبل عودتي إلى إقطاعيّة فيديليو.
فالسبب الأساسي لتلك العلاقة
كان تمكيني من العودة إلى هنا.
وبعد أن تحقّق الهدف،
لم يعد هناك داعٍ للاستمرار في علاقةٍ قد تمسّ بسمعته.
لم أظنّ أنّ الرابط بيننا قد انقطع تمامًا،
لكنّ أقوى حلقةٍ بيننا قد انكسرت فعلًا.
ولهذا،
كان مجيئه شخصيًّا أمرًا يثير الاستغراب.
‘خصوصًا أنّ في هذه الإقطاعيّة
إردان وإيلوديا،
وهما شخصان لا يسرّانه إطلاقًا.’
وإن كان قد تحمّل خطر مواجهتهما،
فلا بدّ أنّ سببًا جللًا قد وقع.
لهذا تسارعت خطواتي.
“هل كنت بخيرٍ خلال هذه الفترة؟”
“……؟”
لكنّ تيسكان استقبلني بوجهٍ هادئٍ ودود،
فبدا عجلي بلا مبرّر.
“بفضلك كنتُ بخير،
فهل أنت أيضًا بخيرٍ يا صاحب السموّ؟”
ابتسم تيسكان،
وعقد حاجبيه قليلًا.
عندها هدأ قلبي للحظة،
ثمّ سقط فجأة.
لقد حدث شيءٌ حقًّا.
“همم.
هل كنتِ بخير فعلًا؟”
“ماذا؟”
كنتُ أتهيّأ نفسيًّا لصدمةٍ وشيكة،
لكنّ كلماته جاءت على غير المتوقّع.
“يبدو أنّ أمرًا مقلقًا يثقل عليكِ.”
أشرتُ إلى نفسي بإصبعٍ شارد.
فأومأ برأسه.
“أتحرّج من الخوض في أمرٍ شخصي،
لكنّكِ فقدتِ الكثير من الوزن.”
كانت عيناه الحمراوان،
اللتان تُذكّرانني بكاسروسيان،
ممتلئتين بالقلق.
“أخشى أن تكوني قد عانيتِ كثيرًا منذ عودتكِ إلى هنا.”
……قلقٌ عليّ؟
في تلك اللحظة،
تذكّرتُ زيارة كاسروسيان قبل أيّام.
هو أيضًا كان يمسك بمعصمي مرارًا،
ويقول إنّي نحفتُ كثيرًا.
‘هل هو واضحٌ إلى هذا الحدّ؟’
صحيح أنّ وزني نقص قليلًا مؤخرًا.
فمع أنّ نومي تحسّن بفضل كاسروسيان،
إلّا أنّ كثرة ما يشغل بالي أفقدني الشهيّة.
لكنّ التغيّر كان طفيفًا جدًّا،
أقلّ بكثير ممّا كان عليه حين حملني لويس يومًا وسأل:
“هل الإمبراطور لا يُطعمكِ؟”
تغيّرٌ بالكاد ألاحظه أنا نفسي.
ولا يمكن وصفه بأنّي ‘نحفتُ كثيرًا’.
‘كاسروسيان يحبّني،
فلعلّه يلاحظ أدقّ الفوارق،
لكن…….’
نظرتُ إلى تيسكان بنظرةٍ متأمّلة.
هل لاحظ هذا التغيّر الطفيف
لبصيرته الحادّة؟
“لا يمكنني القول إنّي لم أتعب نفسيًّا إطلاقًا،
لكنّي أتجاوز الأمر جيّدًا.”
عند جوابي الواثق،
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة.
“كنتُ أنوي أن أقول لكِ
إن احتجتِ إلى مساعدتي يومًا فلا تتردّدي،
لكن يبدو أنّي أعرف الجواب حتّى دون أن أسأل.”
“مهما كان توقّعك،
إن احتجتُ للمساعدة فسأطلبها دون تردّد.”
رمقني بنظرة دهشة.
هل ظنّ أنّي سأرفض؟
“قلتُ ذلك سابقًا، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ بحرجٍ وأنا ألمس مؤخرة رأسي.
‘لقد طلبتُ منه يومًا
أن يستعيد المال الذي سرقه غيلبرت،
لمجرّد شكّي.’
كان ذلك طلبًا وقحًا في حقيقته.
فغيلبرت ينتمي إلى أسرةٍ تابعة لبيت الماركيز،
وتدخّل دوقٍ في شؤون بيت الماركيز
قد يُعدّ تعدّيًا.
ولو علم إردان بذلك،
لاستطاع اتّخاذه ذريعةً خطيرة.
“أنا لا أستطيع فعل كلّ شيءٍ وحدي.
ووصولي إلى ما أنا عليه الآن
كان بفضل مساعدة الكثيرين.”
لو كنتُ وحدي،
دون أيّ عون،
لمتُّ في اللحظة التي وصلتُ فيها إلى إقطاعيّة بيترول.
“ولهذا،
لا أستطيع أن أقول إنّي لا أحتاج إلى مساعدة،
فذلك سيكون غرورًا لا يليق بحالي.”
تردّدتُ قليلًا قبل أن أتابع.
“حتّى لو بدا الأمر وقحًا.”
نعم،
قد يبدو قليل الحياء.
“لكنّي أدرك أنّ مساعدتك لي
ليست سوى فضلٍ ورحمة منك.
وإن رفضت.
فلن ألحّ عليك أو أُحرجك بالمطالبة بما ليس لي.
أعدك بذلك.”
عندها،
أطرق تيسكان بعينيه قليلًا،
وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ عميقة.
“الكونتيسة،
في كلّ مرّة تمنحينني درسًا جديدًا.”
ثمّ رفع نظره وقال،
وكانت نظرته إليّ مليئةً بالودّ:
“أظنّني كنتُ مخطئًا.”
“كيف ذلك؟”
“كنتُ أعتقد أنّ القوّة تكمن
في تجاوز المحن وحدك.
لكنّي أدركتُ الآن
أنّ القوّة الحقيقيّة
هي أن يعرف المرء حدوده،
ويملك الشجاعة لطلب العون.”
“همم.
ربّما هو اختلاف في وجهات النظر.”
“ربّما.
لكن في وضعي الحالي،
أجد الرأي الثاني أقرب إلى قلبي.”
حين أملتُ رأسي غير فاهمة،
فتح فمه مجدّدًا.
“هل يمكنكِ منع رسائل إيلوديا؟”
“……ماذا؟”
“الأمر أنّها…….”
ابتسم تيسكان بمرارة،
وحين سمعتُ ما قاله بعدها،
نسيتُ كلّ ما له علاقة بالاتّزان وفتحتُ فمي على مصراعيه.
“ترسل رسائل دون أن تذكر اسمها،
وكأنّها مراسلات من بيت فيديليو،
فكنتُ أفتحها ظنًّا أنّها منكِ،
فأُفسد بصري.”
حتّى دون سماع التفاصيل،
كنتُ أستطيع تخيّل كيف وصلت رسائل إيلوديا إليه.
كانت تُسيء معاملة الخادمات.
ورغم أنّ ظهور رونا خفّف من ذلك،
إلّا أنّ إيلوديا ظلّت شخصًا مخيفًا لا يُمكن معارضته.
ولهذا،
اضطرّ الخدم إلى تنفيذ طلباتها.
كما أنّهم لم يرفعوا الأمر إلى الأعلى
خوفًا من أن تعلم إيلوديا
أنّهم وشَوا بها فتعود لإيذائهم.
‘النظام فاسدٌ تمامًا.’
لو كان لبيت الماركيز نظامٌ سليم،
لما حدث هذا أصلًا.
لكنّ هذا الفساد
هو ما سمح لي ببيع ممتلكات إردان بسهولة.
ومن مصلحتي
أن يبقى الوضع على ما هو عليه.
“سأمنع وصول الرسائل.”
قلتُ ذلك بعد تفكيرٍ قصير.
التعليقات لهذا الفصل " 175"