كان الطعام عاديًّا لا يلفت، أمّا النبيذ فكان على قدرٍ لا بأس به من الإعجاب.
“أحضِروا مزيدًا من النبيذ.”
لمّا رأت أودري كأس إردان يُفرغ بسرعة، أصدرت أمرها إلى الخادم.
ارتجف الكونت ماثيو وزوجته، وارتسمت على وجهيهما ابتسامةٌ متكلّفة.
كانا قد أعدّا ثلاث زجاجات من نبيذ جبل كليف مراعاةً لذوق النبلاء الرفيع، لكنّ ثمنها كان باهظًا، وكانا يأملان أن تنتهي الوليمة بزجاجةٍ واحدة.
فما تبقّى يمكن بيعه لاحقًا.
“هوهو. يبدو أنّ النبيذ راق له ذوقك.”
“هذا مفرح، هاهاها.”
ومع ذلك، لم يمنعا أودري.
فهما يعلمان جيّدًا أيّ ضيفٍ نفيسٍ إردان.
ومع أنّ القلوب تتألّم، لم يجرؤ الزوجان على شرب النبيذ، فاكتفيا بترطيب شفتيهما بالكاد.
أمّا إردان، فلم يُبدِ أيّ استغرابٍ من بقاء كؤوسهما ممتلئة، وراح يبتلع ذلك النبيذ الغالي جرعةً إثر جرعة، كأنّه ماء.
‘وسيم.’
تلألأت عينا أودري وهي ترى تفّاحة آدم في عنقه تتحرّك.
حتّى حنجرته كانت فاتنة.
وأنفه، ما أشدّ ارتفاعه.
ثمّ تلك اليد التي تمسك كأس النبيذ… يا لها من يد.
“…….”
احمرّ وجه أودري، وارتشفت النبيذ على مهل.
غير مدركةٍ لنظرات والديها الحادّة التي وُجّهت إليها.
‘أريد الزواج من هذا الرجل.’
لم تشأ أن تراه يُسلب منها لصالح ليريبيل.
‘همف. الأمر واضح دون نظر. لا بدّ أنّها ذهبت إلى إقطاعيّة الماركيز لتستميل إردان بالمال الذي حصلت عليه. دعم؟ يا للسخافة.’
هكذا خمّنت أودري سبب مكوث ليريبيل في الإقطاعيّة.
كانت قد سمعت شائعاتٍ تقول إنّ إردان خان ليريبيل مع إيلوديا، وطردها، بل حاول قتلها، ودفع لها خردةً تعويضًا.
لكنّ تلك الأقاويل لم تخطر في بالها الآن.
‘بعد أن سُلب منها رجلٌ كاملٌ كهذا لصالح إيلوديا، لا بدّ أنّها كانت تغلي قهرًا. فأرادت استعادته بأيّ ثمن.’
امتلكت الدوق الأكبر، ومع ذلك لم تكبح جشعها تجاه إردان، بل حاولت إغواءه بمالها.
ذلك التصرّف السوقيّ من ليريبيل لم يكن سوى مقرف.
كما بدا لها مضحكًا ومثيرًا للشفقة أن تتشبّث برجلٍ تركها، مستخدمةً المال ذريعة.
‘قد أكون بلا مال، لكنّي أجمل منك بكثير.’
ابتلعت أودري النبيذ دفعةً واحدة، وألقت نظرةً خاطفة على جانب وجه إردان.
“بخصوص المشروع….”
“أبي، هيا! لا تفتح مواضيع معقّدة أثناء الطعام.
قد يُصاب سعادة الماركيز بسوء هضم.”
حين همّ الكونت ماثيو بالحديث خوفًا من نفاد النبيذ قبل ذكر المشروع، سارعت أودري بالمقاطعة.
“آه….”
نظر الكونت إلى ابنته بوجهٍ متجهّم.
لقد دعا إردان من أجل الاستثمار.
فما معنى أن تمنعه حتّى من لفظ كلمة ‘مشروع’؟
‘آه، كفى!’
رمقته أودري بنظرةٍ حادّة، فخفض بصره إلى الطعام متردّدًا.
مهما يكن، فإنّ من جلب إردان هي أودري، فالأجدر به أن يسايرها.
ومنذ قدوم إردان، تعاظمت سلطة أودري في هذا القصر.
“يمكننا التحدّث عن المشروع في أيّ وقت، أليس كذلك يا سعادة الماركيز؟”
أومأ إردان، وهو مستغرقٌ في النبيذ.
“يبدو يومًا مناسبًا للمزيد من الشرب. هل لديكم نبيذ آخر؟”
“بالطبع. اشرب قدر ما تشاء. ”
وهكذا، فُتحت الزجاجة الثالثة أخيرًا.
شحب وجه الزوجين لا محالة.
بينما ازداد وجه أودري إشراقًا.
“كانت وليمةً ممتعة.”
حين أفرغ إردان الزجاجات الثلاث كلّها، انتهت المائدة.
وكان وجهه قد احمرّ احمرارًا واضحًا.
نهض الزوجان، حائرين بين الارتياح لأنّه لم يطلب المزيد، والحزن على اختفاء الزجاجات الثلاث.
“هل أنت بخير؟”
ما إن همّ إردان بالنهوض، حتّى أمسكت أودري بذراعه بقلقٍ مصطنع.
كأنّها تسانده.
“تبد ثمل قليلًا….”
ضيّق إردان ما بين حاجبيه ونظر إليها.
لم يكن ضعيفًا أمام الخمر.
صحيح أنّ النشوة قد صعدت إلى رأسه، لكنّه لم يكن سكرانًا ولا يتمايل.
فلماذا تلتصق به وتلمّح إلى أنّه ثمل؟
أتراني أبدو لها أحمقَ يترنّح من بضع زجاجات؟
هل تستخفّ بي؟
أنا، لأنّي مُتبنّى؟
“ما رأيك أن تبيت الليلة هنا؟ ركوب العربة الآن قد يُتعب معدتك. ”
قالت أودري وهي تُدخل ذراعه بين صدرها، وتغمض عينيها بإغراء.
عندها فقط أدرك إردان أنّها لا تحتقره، بل تغازله.
“ربّما. قد يكون ذلك أفضل.”
ابتسم ابتسامةً خفيفة.
لم يكن ليرفض حيلةً لطيفة كهذه.
فامرأةٌ تعرض نفسها عليه، لا سبب لديه لردّها.
“سأقودك إلى الغرفة!”
ابتسمت أودري على اتّساعه، واقتادته.
كانت الغرفة مُعدّة سلفًا.
فحين رأت شهيّته للنبيذ، أمرت الخادمات احتياطًا.
“اعتني به جيّدًا يا أودري!”
“لا تدعيه يفتقد شيئًا!”
وقد فهم الزوجان مقصِد ابنتهما أخيرًا، فلم يمنعاها، بل شجّعاها.
‘أرأيتِ يا ليريبيل؟ أنا أفضل منك.’
رمقت أودري إردان وهو يتبعها مطيعًا، وارتسمت على شفتيها ابتسامةُ نصر.
فلو كانت دون ليريبيل، لما وافق على المبيت.
‘بهذه الليلة سأصير ماركيزة.’
فإن كانت ليريبيل قد صارت ماركيزةً يومًا، فما الذي يمنعها، وهي أفضل منها بكثير؟
‘وأصلًا، كونكِ صرتِ ماركيزةً كان بفضلي أنا.’
عضّت أودري شفتها وهي تستعيد ذكرى قديمة.
كانت قد شكت يومًا أمام ليريبيل من فقر بيتها، وقالت إنّه لو استمرّ الحال، فستضطرّ إلى دخول بيتٍ نبيلٍ كوصيفةٍ لتغوي الوريث.
“وهل يُدخلون الوصيفات هكذا ببساطة؟ يا لها من مهمّةٍ سهلة!”
“لا، قد يكون ممكنًا.
تلك الحقيرة من آل فيديليو… ما كان اسمها؟ آه، بريسيلا! يقولون إنّها تقبل أيّ نبيلة كوصيفة.
لأنّه فظيع الطباع، وكثيرًا ما تترك الوصيفات المكان. ما رأيك أن أذهب وأحاول إغواء الماركيز الصغير؟”
“أنا لا. إلا إن كان هناك سبيلٌ لقتل ذلك الوغد والاستيلاء على الميراث، فلن أرهق نفسي بإغواء ماركيزٍ صغير.”
آنذاك، لم تكن كلمات أودري سوى مزاح.
فهما، ليريبيل وأودري، كانتا متشابهتين في خبث الطباع، ولا واحدة منهما كانت لتحتمل إساءةً من أحد.
لكنّها الآن، حين تفكّر، تيقّنت أنّ ليريبيل ذهبت فعلًا إلى بيت فيديليو بعد سماع تلك الكلمات.
‘حفظتْ كلامي، وذهبت إلى الإقطاعيّة لتوقع إردان في شِراكها. يا لها من خبيثة.’
قالت إنّها لن تذهب، وإن ذهبت فستخسر، ثمّ خدعتني وانتزعت مكاني.
ولو كنتُ أنا من ذهب، لكنتُ الماركيزة الآن دون شكّ.
‘أنتِ من بدأ بالقذارة أوّلًا، يا ليريبيل.’
لذا لا تلوميني على ما أفعل.
لم أعد بحاجةٍ إلى مالك.
سآخذ مال الاستثمار من إردان، والمال الذي حملتِه إلى قصر الماركيز سأحسن إنفاقه بصفتي زوجته.
التوى فم أودري.
—
“هادئٌ على غير العادة.”
تمتمتُ بذلك وأنا أحتسي الشاي، فضحكت رونا بخفّة.
كانت إيلوديا هادئة، وأودري أيضًا، وقد رُميت على عاتق إردان.
خرج إردان البارحة إلى بيت أودري، ولم يعد.
‘سواء بات هناك، أو ذهب لارتكاب حماقات، أو قصد دار القمار، لا شأن لي.’
يكفيني هذا السلام والهدوء اللذان خلّفهما غيابهم.
“هل تسير معالجة مقتنيات إردان الثمينة على ما يرام؟”
“نعم.”
أجابت رونا بابتسامةٍ مشرقة.
“لكنّ الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا. فعددها كبير.”
“أتعِبتِ نفسكِ. شكرًا لكِ.”
“لا داعي للشكر.”
تبادلنا الابتسامة.
لم يكن إردان يعلم، لكنّ الممتلكات التي وضعها ضمانًا لم تكن تقتصر على العقارات وحدها.
التعليقات لهذا الفصل " 174"