“كما توقّعت، سعادةُ الماركيز واسعُ الاطّلاع حقًّا!”
عند مديح أودري، انتفخ صدرُ إردان زهوًا، فرأته ليريبيل تطقطق بلسانها في سرّها بتبرّم.
“خطةُ العمل التفصيليّة بحوزة والديَّ، لذا يصعب عليّ الشرحُ أكثر من هذا. وأنا أيضًا لا أعرف التفاصيل الدقيقة كلّها.”
قالت أودري وهي تراقب تعابير إردان بحذر.
توجّه بصرُ إردان إلى ليريبيل.
“يبدو مشروعًا لا بأس به، لذلك أنتِ من استثمر فيه، أليس كذلك؟”
“استثمرتُ فيه بطلبٍ من صديقٍ قديم، لكنّي شخصيًّا أتمنّى له النجاح.”
عند جواب ليريبيل، اشتدّ قلقُ أودري حتى كاد يحرق صدرها.
إن كانت ستجعله يستثمر، فكان ينبغي أن تقول إنّه مشروعٌ رائع، وأن تحثّه على الاستثمار بلا تردّد، فما هذا الفتورُ البارد؟
“استثمارٌ، إذًا….”
تمتم إردان وهو يفرك ذقنه.
لم تكن أودري تعلم.
أنّ إردان وليريبيل في علاقةٍ يتلهّف فيها كلٌّ منهما لطعن قفا الآخر.
وأنّ الإغراق في المعسول من الكلام لا يزيد إلا الشكّ بينهما.
ولذلك، فإنّ برود ليريبيل ولا مبالاتها لم يحرّكا ريبة إردان، بل أيقظا فضوله على العكس.
‘ليس القمار وحده طريقًا سهلًا لكسب المال.’
كلّما فكّر، ازداد أسلوبُ ‘الاستثمار’ إغراءً في عينيه.
أن يجني المال لمجرّد أن يخرجه بأناقةٍ ووقار، أيّ طريقةٍ بديعةٍ هذه؟
كلّما استثمر أكثر، ازداد المتلقّون استثمارَه تذلّلًا له، فيكسب المال ويتباهى، وهو جالسٌ لا يفعل سوى نثر الذهب.
ثم إنّ لقب المستثمر أرقى بكثيرٍ من لقب المقامر.
‘لكنّ المال….’
لم يكن لدى إردان مالٌ يستحقّ الاستثمار.
ولو أراد الاستثمار، لاضطرّ إلى استدانة المال من ليريبيل، وحينها، سواء فشل الاستثمار أم لا، فالخسارة من مالها لا من ماله.
ومنذ البداية، لم يكن في نيّة إردان أن يسدّد لها شيئًا أصلًا.
فما الذي يدعوه إلى السداد، وهو ما إن يتزوّجها ثم يقتلها، حتّى يصبح مالها كلّه له؟
وحين تموت ليريبيل، ستؤول إليه الضمانات كلّها، ولن تبقى مشكلةٌ تُذكر.
وحين يستولي على مالها كاملًا، سيغدو ما ينفقه الآن مجرّد فتات، فلا يضرّه فشلُ الاستثمار.
وإن نجح الاستثمار، حصل على مالٍ يتيح له العيش برفاهٍ حتّى يحين وقت الاستيلاء على ثروة ليريبيل.
خلاصة الأمر، كان الاستثمار صفقةً لا يخسر فيها إردان شيئًا، بل يربح كلّ شيء.
“أودّ أن أسمع التفاصيل.”
ولأنّ النتيجة واحدة على أيّ حال، حسم إردان قراره سريعًا.
سيستثمر في مشروع عائلة ماثيو.
فليريبيل ماكرةٌ إلى حدٍّ لا يُستهان به، ولو تكلّمت ببرود، فلا بدّ أنّها رأت احتمال النجاح قبل أن تستثمر.
“سـ، سأتحدّث إلى والديَّ!”
أشرق وجه أودري المتوتّر في لحظة.
“لا، تعالي إلى قصرنا غدًا مباشرة إن شئت. نتناول الطعام معًا ونتحدّث بالتفصيل.”
“حسنًا.”
سارت الأمور بسلاسةٍ مذهلة.
إلى حدٍّ جعل ليريبيل تبتلع ضحكةً ساخرة وهي تفكّر: ‘هل يُعقل أن تسير الأمور بهذه السهولة؟ إلى أيّ حدٍّ هذا الأحمق أحمق؟’
فحتّى أغبى الأغبياء، كانت تتوقّع منه أن يمضي يومًا أو يومين يستفسر أو يتحرّى عن المشروع قبل أن يتّخذ قرارًا.
—
بعد أن غادرت أودري قصر الماركيز بوجهٍ مشرق.
توجّه إردان إلى ليريبيل.
“أقرضيني مالًا إضافيًّا.”
وكالمرّات السابقة، كان طلبه مالًا.
خسر كلّ ما معه في دار القمار، ولا يملك قرشًا واحدًا، ويحتاج إلى مال الاستثمار، وإلى مالٍ ينفقه في حيّ اللهو.
وحين فكّر بالأمر، بدا له أنّه لم يشترِ ثيابًا ولا حُليًّا منذ وقتٍ لا بأس به.
“هذه المرّة أحتاج أكثر من السابق.”
قالها بثقةٍ وكأنّه يطالب بمالٍ أودعه لديها.
فالاستدانة صعبةٌ في المرّة الأولى فقط، أمّا الثانية فسهلة.
“حسنًا.”
أجابت ليريبيل بلا تردّد.
لم تسأله أين سيُنفق المال، ولا إن كان قد بدّد المال السابق، ولا متى سيسدّد.
ولهذا، بات يشعر بارتياحٍ متزايد في الاستدانة منها.
“إن أردتَ مالًا أكثر، فعليك أن تقدّم ضمانًا أكبر. ماذا ستضع هذه المرّة؟”
سألته وهي تناوله قائمةَ الفيلات والمباني التابعة لأسرة الماركيز، تلك التي استلمتها سابقًا من كبير الخدم.
“كلّ ما تبقّى.”
قال إردان دون أن يطّلع على القائمة أصلًا.
استعادت ليريبيل الورقة من يده، ومرّت عليها بعينيها.
“أنتَ تعرف أسعار كلّ واحدٍ منها، لذا لا حاجة لأن أشرح، أليس كذلك؟”
“نعم.”
في الحقيقة، لم يكن يعرف شيئًا، لكنّه لم يُظهر ذلك.
فلو قال إنّه لا يعلم، لشعر بأنّها ستحتقره.
“سأعطيك عشرين مليار غولد.”
قدّمت له عقد الضمان.
“عشرون مليار؟ فقط؟”
تقطّبت ملامحه لقلّة المبلغ عمّا توقّع، لكنّه أسرع إلى فرد حاجبيه حين رأى البرود يتجمّد على وجهها.
“آه، تفاجأتُ فقط لأنّه أقلّ ممّا ظننت.”
“قلتُ لك سابقًا، بدلًا من أخذ الفائدة، سأعطيك مبلغًا أقلّ من قيمة الضمان.”
“هذا صحيح، لكن….”
“إن لم يعجبك، فبِعه بنفسك.”
مع ذلك، كانت ليريبيل واثقةً أنّه لن يتحقّق من الأسعار، ولن يبيع أيّ مبنى بيده.
“ارفعِي المبلغ قليلًا.”
لم يكن إردان مستعدًّا لبذل أيّ جهدٍ مزعج أو معقّد.
كما أنّه لا يطيق أن يبدو كمن يبيع ممتلكاته لفقره.
“ثلاثون مليارًا.”
“همم.”
حتّى بعد إضافة عشرة مليارات، بدا غير راضٍ، فارتسمت التجاعيد على جبينه.
“سأضع قصر العاصمة ضمانًا أيضًا.”
قالها فجأة بعد تردّدٍ قصير.
“ذلك المكان باهظ، وكبير. أنتَ تعرف، أليس كذلك؟”
لا أعرف. لم أزره قطّ.
منذ تزوّجي بك، وأنا حبيسةُ هذا المكان، لا أنام، وأغرق في الأوراق، فمتى سنحت لي فرصة زيارته؟
أرادت ليريبيل أن تقول ذلك، لكنّها اكتفت بهزّ رأسها وكأنّها تعرف.
“أربعون مليارًا.”
ارتفعت عينا إردان قليلًا، كأنّه يحسب في ذهنه.
وبعد لحظة، فتح فمه.
“موافق.”
كادت ليريبيل تقبض يدها بقوّة دون أن تشعر.
لم يتبقَّ لإردان الآن سوى قصر الماركيز في الإقطاعيّة.
وحين يتخلّى عنه، سيكون الدور التالي على الإقليم نفسه.
كتبت ليريبيل الأوراق، وهي تتمنّى أن يبدّد إردان المال بأسرع ما يمكن.
—
“أهلًا بك، سعادة الماركيز.”
“يشرفنا لقاؤك.”
عند زيارة إردان، خرج الكونت ماثيو وزوجته شبه راكضين، وانحنيا له بتذلّل.
أجابهم إردان بإيماءةٍ مقتضبة، وعدّ هو وهم وقاحته أمرًا طبيعيًّا.
‘حقير.’
تصفّح إردان القصر بنظراته، وهو ينقر لسانه استهجانًا.
فبالنسبة لمن اعتاد التحلّي بأفخر الأشياء، بدا قصر العاصمة الذي اشتراه الزوجان بعد عناءٍ طويل بالغ الفقر.
وقد نسي تمامًا أنّه زار هذا المكان سابقًا للقاء ليريبيل، وأنهى تقييمه للقصر.
“لقد وصلت؟”
تقدّمت أودري متأخّرة عن والديها، مبتسمةً ببهاء.
لقد بذلت قصارى جهدها من أجل هذا اليوم.
ارتدت أغلى فستانٍ لديها، وفتحت صندوق مجوهرات أمّها لتتزيّن بأفضل ما فيه.
وأرهقت الخادمات لساعاتٍ طويلة، تهذّب شعرها وتضع مساحيقها بعناية.
ربّما لذلك.
بدت أجمل من المعتاد، ويشعّ منها طابعٌ راقٍ.
“لنذهب إلى قاعة الطعام. المائدة جاهزة.”
ابتسمت ابتسامةً خفيفة، متمنّية أن تبرز غمازتاها بلطف.
ثمّ هزّت شعرها الأحمر المتموّج، واقتربت من إردان بخفّة، وشبكت ذراعها بذراعه.
“سأرشدك.”
ألقى إردان نظرةً جانبيّة على أودري المتشبّثة بذراعه.
فوق فتحة الفستان العميقة، برز صدرها الأبيض الممتلئ أوّلًا.
ليس كبيرًا، ولا صغيرًا، صدرٌ لطيف، تضغطه إلى ذراعه عمدًا، ولم يكن الأمر مزعجًا تمامًا.
ابتسم إردان ابتسامةً ساخرة، وتابع السير.
‘نجحت!’
حين لم يُبعدها عنه ومضى، أشرق وجه أودري.
وكذلك أضاء وجه والديها.
فليس فقط أنّ أحد كبار النبلاء جاء ليستمع إلى شرح المشروع، بل أظهر حميميّة مع ابنتهم أيضًا.
تبسّموا بسعادة، وتبعوا إردان وأودري إلى قاعة الطعام.
“أن نحظى بفرصة تناول الطعام مع سعادة الماركيز، كأنّنا نحلم. آه، إنّ رأسي يكاد يدور من شدّة النشوة.”
“تماسكي يا سيّدتي. لا ينبغي أن نُفوّت هذا الشرف بالإغماء. هاها. إنّه شرفٌ سيتناقله نسلُنا.”
“هل الطعام على ذوقك؟”
طوال الوليمة، أغرق الزوجان إردان بالتملّق، فيما التصقت أودري به، تساعده في الطعام كأنّها وصيفته.
‘لا بأس.’
ارتشف نبيذ جبل كليف الذي حصلوا عليه بشقّ الأنفس، وارتسمت على شفتيه ابتسامةُ رضا.
التعليقات لهذا الفصل " 173"