اقترب كاسروسيان من جهة الطاولة، وأحضرَ أحدَ الكراسي.
ثمّ وضعه إلى جوار السرير وجلس عليه.
“سأبقى إلى جانبكِ حتّى تغفوي.”
“لا، لا بأس. لا تُجهد نفسك.”
“لأنّي لا أرغب في الرحيل هكذا.”
أضجعني كاسروسيان، ثمّ غطّاني باللحاف جيّدًا.
“أرغب في البقاء معكِ أطول وقت ممكن، لكن لا بدّ من أن تنامي، فاسمحي لي على الأقلّ أن أبقى إلى أن تغفوي.”
أمسكت يدُه الكبيرة يدي برفق.
“……شكرًا لك.”
“أنا مَن يجب أن يشكركِ، لأنّكِ رحّبتِ بي رغم أنّي جئتُ على نحوٍ غير لائق.”
كانت كلّ كلمةٍ يقولها كاسروسيان تملأ قلبي بالفرح.
لم أكن أريد النوم حقًّا، لكن ما إن استلقيتُ على السرير حتّى داهمني النعاس، فأغمضتُ عينيّ لا شعوريًّا.
وكلّما فتحتُ عينيّ مذعورةً لأنّي أريد رؤيته أكثر، رأيتُه يحدّق بي بنظرةٍ وديعة.
وفي المرّة التالية.
وفي التي بعدها.
مهما فتحتُ عينيّ مرارًا، كان لا يزال في مكانه.
ولا يزال ممسكًا بيدي.
“آه…….”
حين فتحتُ عينيّ صباحًا، لم يكن كاسروسيان هناك.
وبحسرةٍ، أمسكتُ باليد التي كان يمسكها بيدي الأخرى، فشعرتُ بدفئه الذي لم يزل بعد.
ومن ذلك الدفء عرفتُ.
أنّ كاسروسيان بقي إلى جانبي حتّى الصباح.
—
“اللعنة!”
ما إن رأى إردان الورقة التي قدّمها الموزّع حتّى شتم بصوتٍ عالٍ.
كان قد راهن بكلّ ما يملك ظانًّا أنّه سيفوز حتمًا، لكن لم يخطر بباله أنّ خصمه يحمل مثل تلك الورقة.
‘اللعنة. اللعنة. اللعنة!’
لقد خسر المال الذي استدانه من ليريبيل خلال ثلاثة أيّامٍ فحسب.
‘ما العمل الآن.’
نهض إردان من مكانه وهو يمرّر يده بعصبيّة في شعره.
حتّى لو لم يحصل على المال من ليريبيل، لم يكن ينوي أن يعيش حياةً بائسة.
لكنّه في الوقت نفسه كان يكره أن يواصل التذلّل لها طالبًا المال.
إذًا، لم يبقَ سوى أن يكسب المال بنفسه، لكن متى جرّب إردان أن يكسب مالًا وحده؟
كلّ ما كان يجيده هو تبديد المال الوفير بلا حساب، ولهذا كان مجيئه إلى دار القمار حتميًّا.
وبينما كان يفكّر في اقتراض المال من دار القمار، استدار إردان مبتعدًا.
ففوائد دار القمار كانت فاحشة.
وما دام لا بدّ من الاقتراض، فالأفضل أن يقترض من ليريبيل التي لا تأخذ فائدة.
وفوق ذلك، لم يكن يرغب في أن يراه أحد وهو يستدين المال.
“أوه، سيّدي الماركيز؟”
نادته امرأة وهو يهمّ بالمغادرة.
من هذه؟
ضيّق إردان عينيه.
“نلتقي هنا أيضًا.”
كانت المرأة ترتدي فستانًا فاضحًا يكشف صدرها، ووجهها مغطّى بطبقاتٍ سميكة من الزينة كأنّها قناع.
أرخَت عينيها مبتسمةً بخفّة وغطّت فمها بالمروحة.
ومع كلّ حركةٍ منها، اندفع عطرها ليخز الأنف.
“كنتُ قلقة لأنّك لم تعد تزور المحلّ في الآونة الأخيرة، يبدو أنّك أدمنتَ القمار.”
قطّب إردان جبينه وتجاوزها.
فهرعت المرأة ولحقت به، ثمّ تشبّثت بذراعه وضغطت صدرها الكبير عليه.
“تعال وزُر المحلّ مرّةً، أرجوك. الجميع هناك ينتظرونك.”
كانت امرأةً من نساء الملاهي، يظهر ذلك من لباسها وهيئتها وتصرفاتها.
“اتركيني! تُثيرين أعصابي!”
نفض إردان ذراعها بخشونة.
ارتعشت المرأة قليلًا، ثمّ ابتسمت ببراءة.
“آسفة. لم أكن أعلم أنّ مزاجك سيّئ.”
“اصمتي واغربي. ألم تأتِ لتلعبي مع أولئك الأوغاد في الداخل؟ لماذا تتشبّثين بي.”
“أوه، أنت أهمّ شيءٍ لديّ يا سيّد الماركيز.”
خفّ توتّر وجه إردان قليلًا عند كلماتها الناعمة.
“حين يسوء مزاجك، أفضل علاج هو كأسُ خمرٍ وضحكٌ يطرد الهمّ. أو أن تفرغ غضبك في امرأةٍ غبيّة.”
ضحكت المرأة بمرح.
“أنا دائمًا بانتظارك، ففرّغ فيّ غضبك كما تشاء.”
اقتربت منه وهمست بصوتٍ خافت:
“يسعدني كثيرًا أن تعاقبني يا سيّد الماركيز.”
ثمّ تراجعت خطوةً، وانحنت بأدبٍ متصنّعةً وقار السيّدات.
“سأكون في الانتظار.”
وعندما أدارت ظهرها، ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ خبيثة.
‘يا له من مغفّل.’
كانت مدينة إيمولين الحرّة مدينةَ اللهو والملذّات والقمار.
وكان إردان من مشاهير هذه المدينة.
أو بالأحرى، مشهورًا بين نساء الملاهي وزعمائها.
مغفّل، أو ممول.
هكذا كانوا يطلقون عليه.
كان إردان يبعثر في ليلةٍ واحدة عشرات آلاف الذهبات على نساء الملاهي بلا تردّد.
والنساء اللواتي يُحسنّ إرضاء مزاجه كنّ يجنين في ليلةٍ واحدة أرباحَ سنوات.
وكذلك العاملون في المحالّ.
لم يكن إردان حسنَ الطباع حتّى مجاملةً.
كان غريب الأطوار، سيّئ المزاج، وقد يثور فجأةً بلا سبب.
لكن إن انحنى الآخرون له وأرضوا هواه، بل حتّى إن أخطؤوا ثمّ اعتذروا متذلّلين كالحشرات، كان يهدأ سريعًا ويشرع في نثر المال.
ولهذا لم تكن تخشاه المرأة مطلقًا.
فهو ثريّ، ووسيمٌ لا بأس به، ورفيقُ لهوٍ ممتاز.
مع أنّها لم تفكّر يومًا في الوقوع في حبّه.
ثريّ، وسيم، ومغفّل… لكنّ المجنون يظلّ مجنونًا.
إن تعلّقت به بعمق، فلن تجني سوى الخسارة، لذا فالأفضل أن تنتزع المال منه فحسب.
‘لم يزر المحلّ منذ فترة فعلًا.’
تتبّع إردان بعينيه خصرها الممشوق ومؤخّرتها المتمايلة.
‘إذا اقترضتُ المال هذه المرّة، سأزور المحلّ أوّلًا.’
نعم.
فالتوتّر أصلُ كلّ داء، وتبديده بكأسِ خمرٍ وابتسامةٍ جميلة وتملّقِ امرأةٍ غبيّة يبدو خيارًا أفضل.
فمشاهدة أولئك الديدان وهي تزحف تحت قدميه، مستعدّةً لأن تقدّم الكبد والطحال مقابل المال، كانت متعةً لا بأس بها.
بدأ إردان زيارة مدينة إيمولين الحرّة بعد موت بريسيلّا.
قبل ذلك، كان مقيّدًا بلجامها ويتظاهر بالتهذيب.
وبعد موتها، انفلت عقاله وأطلق شهواته بلا قيد.
وكان هذا يعني أنّه خلال العامين اللذين هرب فيهما من قصر الماركيز، لم يكتفِ بمحاولة إغواء إيلوديا فحسب.
“لنعد الآن.”
صرف إردان نظره عن المرأة وسار مترنّحًا عائدًا إلى قصر الماركيز.
وكانت فكرة رؤية ليريبيل المتصلّبة كالغصن اليابس تثير فيه غثيانًا وغضبًا لا يُطاق.
—
“ما هذا.”
ما إن عاد إردان إلى القصر حتّى قصد قاعة الطعام.
كان فيها ضيفٌ سبقه.
“آه، لقد وصلت.”
نهضت ليريبيل، كما نهضت المرأة الصغيرة الجالسة أمامها بتردّد.
“هل تودّ الانضمام إلينا؟”
كما توقّع إردان، كان أسلوب ليريبيل جافًّا للغاية.
فزفر زفرةً خشنة.
ألا يمكنها أن تقول إنّها قلقت لأنّه لم يعد منذ أيّام، أو حتّى مجاملةً أنّها اشتاقت إليه؟
ألا يجب أن تبدأ بمثل هذه الكلمات اللطيفة؟
‘مهما يكن، أنا زوجها السابق وخطيبها المستقبلي، ألا تستطيع حتّى هذا القدر؟’
حتّى امرأة الملاهي تتكلّم بنعومةٍ أكبر من هذه، فكيف يُرجى أن تنشأ مودة مع امرأةٍ كهذه؟
“حسنًا.”
ابتلع إردان ما في نفسه وابتسم بلطف.
لم يكن بمقدوره أن يترك قاعة الطعام وينصرف.
فاللجام في عنقه، وهو مَن سيطلب المال بتذلّل.
قرقرة.
وفوق ذلك، كان جائعًا جدًّا.
فقد خسر ماله في القمار ولم يتمكّن من تناول شيء.
‘خسرتَ كلّ مالك ثمّ تأتي بكلّ هذه الوقاحة. لو كنتَ ستخسره، فليتك خسرتَه سريعًا.’
رمقته ليريبيل بنظرةٍ باردة.
لقد طلبت من أودري أن تأتي بعد ثلاثة أيّام لتتمكّن خلال تلك المدّة من إقناع إردان بالاستثمار في عائلة ماثيو.
لكن من كان ليتوقّع أنّه سيقضي الأيّام الثلاثة في دور القمار؟
لم يكن بلا استعداد فحسب، بل حتّى إردان الذي ستقدّمه لأودري لم يكن جاهزًا، فحين جاءت أودري في الموعد ثارت متّهمةً إيّاها بالخداع.
ولهذا جاءت إلى قاعة الطعام لتكمّم فمها.
فما دام الفم مشغولًا بالطعام، سيسود الصمت.
لم يكن إردان، الذي خسر المال وأفسد الخطّة، ليبدو في عين ليريبيل بصورةٍ حسنة.
بل لم يكن يومًا كذلك أصلًا.
“هذه السيّدة صديقتي، أودري.”
“تشرّفتُ بلقائك. أنا أودري دي ماثيو.”
عندما جلس إردان في صدر المجلس، قدّمت ليريبيل أودري.
فبادرت أودري بالتحيّة كما لو كانت تنتظر الفرصة.
كان خداها محمّرَين، وعلى شفتيها ابتسامةٌ خجولة وهي تنظر إلى إردان.
التعليقات لهذا الفصل " 171"