“أنتِ.”
لو أنّ أحدًا رأى إيلوديا وهي تقذف كلماتها الحادّة نحو الخادمة،
لارتعب من التغيّر الصارخ في ملامحها.
“أحضرتِ لي هذا القرف لأكله؟”
اندفعت إيلوديا بخطواتٍ سريعة نحو الطاولة،
ورفعت طبقًا بيدها.
كان طبق سلطةٍ طازجة.
لأنّها معروفة بأنّها تحمل وريث أسرة ماركيز فيديليو،
على ما يبدو.
فخلافًا لوقت احتجازها كمجرمة،
كانت إيلوديا الآن تُقدَّم لها ثلاث وجباتٍ متوازنة يوميًّا دون انقطاع.
ومع ذلك،
كانت تصرّ على أنّهم يحتقرونها.
“تجرؤون على ازدرائي؟
أنا سيّدة هذا البيت، والحاملة لوريثه!”
وحين همّت بإلقاء الطبق على الخادمة،
انكمشت الخادمة جسديًّا دون وعي.
عند رؤية ذلك،
تسرّبت إلى قلب إيلوديا لذّةٌ دنيئة.
أن تسحق شخصًا،
وأن ترى ذلك المسحوق يستسلم دون مقاومة.
كان في ذلك نشوةٌ غريبة،
تُنسيها فوضى واقعها الحالي.
تمامًا كما كانت كلمات الإطراء الّتي أغدقوها عليها في الماضي،
وطريقة تمجيد جمالها،
قد منحتها شعور التفوّق،
وإن اختلف الأسلوب.
“صرتِ تشبهين بريسيلا فعلًا.”
في اللحظة الّتي كاد فيها محتوى الطبق أن ينسكب على رأس الخادمة المنكمشة—
وصل إلى أذن إيلوديا صوتٌ مألوف.
“تس تس.”
التفتت نحو مصدر الصوت،
فرأت خادمةً تقف مائلةً بذراعيها المعقودتين،
تلوّك لسانها استهجانًا.
‘……من كانت؟’
كان وجهها مألوفًا على نحوٍ مزعج،
فضيّقت إيلوديا عينيها تحاول التذكّر،
ثمّ ما لبث لونها أن شحب.
تلك الخادمة لم تكن سوى رونا.
الّتي عذّبتها بلا رحمة في الماضي.
“أنتِ…
ما الّذي جاء بكِ إلى هنا…….”
“هذا ليس من شأنك.”
دخلت رونا من الباب المفتوح بلا تردّد،
وأمسكت بكتف الخادمة المتردّدة.
“اخرجي.”
نظرت الخادمة بخوفٍ إلى إيلوديا ورونا بالتناوب،
ثمّ هربت مسرعة إلى الخارج.
“ما الّذي تفعلينه!”
تردّدت إيلوديا للحظة،
إذ عادت إليها ذكريات خضوعها لرونا في الماضي،
لكنّها استمدّت جرأةً من عيني الخادمة المذعورتين،
فصرخت.
“بأيّ حقّ تأمرين خادمة أمامي؟
يا لكِ من وقحة!”
أنزلت رونا طرفي شفتيها،
وفتحت عينيها على اتّساعهما.
كانت تتظاهر بالطّيبة سابقًا ولا تجرؤ على فعل شيء،
لكن يبدو أنّها اشتدّت كثيرًا في غيابي؟
وفي تلك اللحظة—
“أتعرفين من أنا؟
أنا سيّدة هذا البيت!
أنا أحمل وريثه!”
ولأنّ رونا لم تتحرّك قيد أنملة،
قذفت إيلوديا طبق السّلطة الّذي لم تلقه على الخادمة.
“……!”
لكنّها لم تنجح في سكب السّلطة على رأس رونا.
إذ في لمح البصر،
أمسكت رونا بمعصم إيلوديا النّحيل،
وانتزعت منها الطبق.
ولم تكتفِ بذلك.
بل سكبت السّلطة على وجه إيلوديا.
“مـ، ما هذا…….”
تلعثمت إيلوديا غير مصدّقة،
وهي مغطّاة بالسّلطة اللاصقة بفعل الصّلصة.
“أتمزحين؟”
رفعت رونا أحد طرفي فمها ساخرة،
ونفخت باستهزاء.
لقد تحمّلت رونا سنواتٍ من بطش بريسيلا.
فما كانت تلوّح به إيلوديا بذراعيها الرّخوتين
لم يكن يستحقّ حتّى السّخرية.
“وماذا لو كنتِ سيّدة البيت؟
وماذا ستفعلين؟
اقطعي رأسي الآن إن استطعتِ.”
مدّت رونا وجهها فجأة نحو إيلوديا.
تراجعت إيلوديا خطوةً إلى الوراء دون وعي.
“تفضّلي، سيّدتي.
اقطعي رأسي.
ها هو.
هيا.”
“ا، ابتعدي!”
“ما الّذي تستطيعين فعله لأنّكِ سيّدة البيت؟
من أين جاء هذا التّهديد السّخيف؟”
“……!”
“أنتِ بهيمة.
ألا تعرفين؟
بهيمة يُطعَم بطنها لتلد طفلًا، لا أكثر.”
وقد استحضرت رونا الإهانات الّتي سمعتها من بريسيلا لسنوات،
وبدأت تسخر بمرارة.
“أنتِ،
أنتِ ترتكبين خطأً.”
اغرورقت عينا إيلوديا بالدّموع،
وقد طغى عليها الشّعور بالظّلم أمام كلمات رونا القاسية.
“الطفل في بطني وريث أسرة الدّوق.
وتعاملينني كبهيمة؟
أيعني هذا أنّ الطّفل بهيمة أيضًا؟
سأخبر السيّد إِردان…….”
لا.
لا يمكن.
يجب أن أخرج وأقابل إِردان، مهما كلّف الأمر.
كيف يُعقل أن تُهان امرأة تحمل وريث الأسرة
على يد خادمة؟
وفي تلك اللحظة—
“لا يوجد طفل أصلًا.”
تجمّدت قدم إيلوديا في مكانها.
وانغرست عيناها في وجه رونا البارد.
“ماذا…….”
“أتظنّين أنّ التحقّق ممّا إذا كنتِ حاملًا أم لا أمرٌ صعب؟”
“ما هذا الهراء!
لا تفترِي عليّ!”
“يكفي أن نسأل الخادمات الّلاتي كنّ يخدمنكِ.
الخادمات يعرفن دورة سيّداتهنّ الشهريّة.”
“……!”
شحب وجه إيلوديا،
وبدأت يداها ترتجفان.
“بل حتّى سؤال الخادمات الّلاتي نظّفن غرفتكِ
أو تولّين خدمتكِ أثناء الاستحمام كافٍ.”
تاه بريق عينيها الزّرقاوين،
واهتزّ بلا اتّجاه.
“أكثر من ستّة أشهر.”
ابتسمت رونا ابتسامةً جانبيّة.
“مدّة انقطاع طمثكِ.
أليس كذلك؟”
لم يكن هذا ما اكتشفته رونا بنفسها.
بعد أن ناقشت ليريبيل أمر إِردان وإيلوديا،
استدعت فورًا الخادمات الّلاتي خدمْن إيلوديا.
ومن أقوالهنّ،
ومن رسالة السّيّدة ماكونري الّتي نأت بنفسها عن الأمر،
تيقّنت ليريبيل أنّ إيلوديا ليست حاملًا.
“ما الّذي تقولينه……”
حاولت إيلوديا الإنكار.
لكن—
نبرة صوتها الّتي لانَت فجأة،
ونظرتها المائلة الّتي لا تجرؤ على مواجهة رونا،
ووجهها المتصلّب—
كلّ ذلك كشف لرونا الحقيقة.
‘كما توقّعت، سيّدتي ليريبيل.’
امتلأ وجه رونا بالفخر.
أن تفضح كذبة هذه المرأة الماكرة في لحظة.
“دعينا نعيش بهدوء.
حسنًا؟”
جلست رونا على الأريكة بإهمال،
وأراحت جسدها.
ومع ذلك التصرّف المستفزّ،
لم تستطع إيلوديا سوى الوقوف متردّدة،
عاجزةً عن النّطق.
“لا تريدينني أن أنشر هذا في كلّ مكان، أليس كذلك؟”
“…….”
“تظاهري فقط بأنّكِ حامل،
وابقي هادئة.
وعندما يحين الوقت، سنُخرجكِ بهدوء.”
هذا أيضًا لم يكن رأي رونا.
بل رأي ليريبيل.
“عندما يحين الوقت، سنُخرجكِ بهدوء،
فالتزمي الصّمت.”
سيّدتي ليريبيل طيّبة أكثر من اللازم.
عبست رونا بشفتيها.
بدا أنّ ليريبيل لا تنوي كشف حقيقة عدم حمل إيلوديا.
“لو كُشف الأمر،
فسيسارع إِردان لطرد إيلوديا،
ثمّ يلاحقني طالبًا الزّواج.”
“أن تبقى إيلوديا هنا،
معلّقةً بلا وضعٍ واضح،
أفضل.”
فهمت رونا ذلك،
لكنّ فكرة إخراج إيلوديا بهدوء
لم تعجبها تمامًا.
ألم تتواطأ إيلوديا على قتل ليريبيل؟
وألم تحاول، ولو بخطّةٍ سخيفة،
سلب مالها؟
“تُخرجينني؟
أنتِ؟”
“سواء أخرجتُكِ أنا أو غيري،
فهذا ليس أمرًا سيّئًا لكِ.”
نقلت رونا رأي ليريبيل ببرودٍ صريح،
من دون أن تعارضه.
وفي تلك اللحظة،
اهتزّت عينا إيلوديا بعنف.
لا.
إنّه أمرٌ سيّئ.
لا أريد الخروج من هنا.
أريد أن أعيش سيّدةً متألّقة وجميلة لهذا البيت.
أريد أن أعيش في قمّة المجتمع الأرستقراطي.
لا أريد أن أُطرَد من هذا العالم!
“رونا.”
اقتربت إيلوديا بخطواتٍ صغيرة،
دون أن تحاول حتّى ترتيب هيئتها الملطّخة بالسّلطة،
وتردّدت أمامها.
“لن أطلب الكثير.
سأعيش بهدوء.
لكن أعيدي لي السيّدة ماكونري فقط.
هي وحدها.
من فضلكِ؟”
لا تعرف لماذا عادت رونا إلى هنا.
لكن من جرأتها على القول إنّها ستُخرجها،
لا بدّ أنّها اكتسبت قوّةً عظيمة
أو مكانةً معتبرة.
وإن كان الأمر كذلك،
فإعادة ماكونري يجب أن تكون سهلة.
“ها.”
أطلقت رونا ضحكةً فارغة خرجت من أعماق صدرها.
كان مضحكًا إلى حدّ السّخف
كيف ما زالت إيلوديا تؤمن أنّ ماكونري في صفّها.
في الوقت نفسه،
كانت قد ألقت بكلّ شيءٍ على السّيّدة ماكونري
وسافرت إلى العاصمة بسعادة،
تحاول إيقاع ليريبيل في مأزق.
ومع ذلك،
تبحث عنها الآن بلا خجل.
صحيح أنّ ماكونري وافقت على طلب إيلوديا
فقط لتساعد ليريبيل وتنسحب من هذه القضيّة،
لكن—
من الخارج،
بدت وكأنّها طُردت بسبب إيلوديا.
ومع ذلك،
تطلبها الآن؟
“لا أحد يعرفني مثلها.
إن كانت معي، سيهدأ قلبي،
ولن أُسيء إلى الخادمات كما فعلتُ سابقًا.”
راحت إيلوديا تتوسّل،
تُسرع كلماتها لإقناع رونا.
“فكّري في الأمر.
أليس الحبس وحده عذابًا؟
حتّى أنا، لا بدّ أن تسوء أخلاقي.
هذا أمرٌ لا مفرّ منه.”
“…….”
“إن أردتِني أن أبقى هادئة،
فأنا بحاجةٍ إلى شخصٍ يعرف كيف يُرضيني.”
“…….”
“أحتاج إلى من يُهدّئني!”
تلألأت عينا إيلوديا
بأملٍ دنيء.
التعليقات لهذا الفصل " 164"