“بصورةٍ شخصيّة، أستطيع تدبير الأمر لك.”
“بصورةٍ شخصيّة؟
هل لديكِ مالٌ إضافي؟”
انتفض إِردان فزعًا.
‘بلى، لديّ مال.’
كلّ ما جلبتُه معي كان مالًا خرج أصلًا من جيب إِردان،
أمّا مالي الشّخصي فكان منفصلًا عنه.
‘ثمن التصرّف بجثّة التّنّين، قبضتُ جزءًا منه مسبقًا.’
قال كاسروسيان إنّ الخروج إلى الحرب يتطلّب تجهيز العُدّة والسّلاح جيّدًا،
فأعطاني مسبقًا جزءًا من المال الّذي كان سيمنحني إيّاه.
لم يكن سوى نحو خُمس المبلغ المتّفق عليه،
لكنّه كان مالًا كافيًا تمامًا لأن أُسمِع به كلمة رفضٍ أينما ذهبت.
“بالطّبع.
أتدري كم المبلغ الّذي سأحصل عليه أصلًا؟”
ابتسم إِردان ابتسامةً بدت سعيدة للحظة،
ثمّ ما لبث أن تصلّب وجهه.
‘لا بدّ أنّه يشعر بالقهر.’
ثمن جثّة التّنّين الّتي خرجت من إقليم بيترول.
كان ذلك المال في الأصل مال إِردان.
“على أيّ حال، يمكنني أن أُؤمّنه لك.”
“……حسنًا.
أرجوكِ.”
أجاب إِردان بوجهٍ كئيب، كأنّه استسلم لفكرة أنّ المال الّذي كان له لم يعد له،
لكنّه ضيّق عينيه عند كلمتي التّالية.
كان واضحًا أنّه يفكّر:
‘ما الّذي تخطّط له هذه المرأة الآن؟’
“لكن لا يمكنني إعطاءه مجّانًا.”
“…….”
“لو كنتُ قد تزوّجتُ إِردان، لكان مالًا أستطيع منحه بلا تردّد،
لكنّنا لسنا كذلك الآن، أليس كذلك؟”
“سنتزوّج لاحقًا على أيّ حال.”
“الأمور الّتي تُترك إلى لاحقًا تكون دائمًا غير مؤكّدة.”
“…….”
“ثمّ إنّني لم أعد لأنّني أحبّك يا إِردان،
بل لأنّني قلِقة على الإقليم فقط،
فأليس من الطّبيعي أن أتردّد في إعطاء مبلغٍ كبير لمن لا أحبّه،
ولا هو زوجي؟”
أغمض إِردان عينيه بإحكام،
وزفر زفرةً طويلة كمن يكبت غضبه.
كان يريد المجادلة،
لكنّ من أخّر الزّواج كان هو،
ولم يكن لديه ما يقوله.
“ماذا تريدين إذًا.”
“لا شيء كبير.
قدّم لي رهنًا فحسب.”
ضيّق إِردان ما بين حاجبيه،
ومسح مؤخرة عنقه كأنّه يفكّر.
‘هل أستدين من مكانٍ آخر دون أن أضطرّ لطلبها منها؟’
“إن قدّمتَ رهنًا مناسبًا، فلن آخذ فائدة.
لكنّ المبلغ الّذي سأعطيه سيكون أقلّ من قيمة الرّهن.
لا توجد فائدة،
فهذا القدر مفهوم، أليس كذلك؟”
“هممم.”
“إن استدنتَ من مصرف، أو من تُجّار المال،
فلن يكون معدّل الفائدة هيّنًا،
كما أنّ خبر تجوّل دوق فيديليو،
صاحب الإقليم نفسه، بحثًا عن القروض،
سينتشر.”
إِردان رجلٌ يعشق كلّ ما يجعله متعجرفًا.
انتشار شائعة أنّه يستدين المال،
وما فيها من مساسٍ بهيبته،
شيءٌ يكرهه حدّ الموت.
“من دون فائدة أفضل.
حسنًا، فهمت.
ماذا تريدين رهنًا؟”
تردّد لحظةً وهو يقطّب جبينه،
ثمّ نطق بكلمات القبول.
كان تمامًا كما توقّعت.
ابتسمتُ ابتسامةً خفيفة وقلت:
“لا شيء كبير.
ما رأيك ببضع فيلاتٍ أو مبانٍ تملكها؟”
“سأطلب من كبير الخدم إعداد قائمة بفيلات ومبانِي أسرة دوق فيديليو.
سأعود بعد قليل،
فحضّري المال.”
وافق إِردان فورًا، دون كثير تفكير.
بضع فيلات لا يزورها أصلًا،
وبعض المباني الّتي قد لا يعرف أصلًا بوجودها،
حتّى لو انتقلت إليّ لعدم سداده الدَّين،
فلن يهمّه الأمر.
‘نعم.
الآن لن يشعر بأيّ حرجٍ في الاستدانة.
الصّعب هو المرّة الأولى،
أمّا الثّانية فليست صعبة.’
أجزم أنّ إِردان،
غير القادر على كبح إسرافه المعتاد،
سيعود إليّ سريعًا.
الفيلات.
المباني.
قصر العاصمة.
قصر دوق فيديليو في الإقليم.
ثمّ إقليم فيديليو نفسه.
ما زال أمامي الكثير ممّا يمكنني أخذه رهنًا منه.
—
بعد إقراض إِردان المال بمدّةٍ قصيرة،
جاءتني رئيسة الخدم.
“الأمر فوضى.”
خرجت من فمها مشكلةٌ جديدة لم أتوقّعها.
“تقول إنّها السّيّدة الشّرعيّة الحاملة للوريث،
وتطالب بأن تُخدم بكلّ عناية،
وقد أحدثت شغبًا بعد شغب…….”
هزّت رئيسة الخدم رأسها،
وهي تقطّب حاجبيها كأنّ رأسها يؤلمها.
الشّخص الّذي كانت تشير إليه هو إيلوديا.
“في السّابق كانت مجرمة زوّرت وثائق رسميّة بعد سرقة ختم الدّوق،
وكُنّا نظنّ أنّ الزّواج سيُبطَل لا محالة،
فتمكّنت الخادمات من مواجهتها،
لكن الآن ليس الأمر كذلك، أليس كذلك؟”
صحيح.
مهما كان،
فهي ما زالت السّيّدة،
وتحمل وريثًا.
“حتّى حين نقول إنّ هذا بأمر إِردان،
كانت تقول إنّها السّيّدة وتطالب بمعاملة لائقة،
وترمي الأشياء…….”
“إيلوديا رمت الأشياء؟”
سألتُ غير مصدّقة،
فأومأت رئيسة الخدم برأسها بنظرةٍ مستغربة.
“بدت كأنّها على وشك ضرب الخادمات.
آه،
بل لقد فعلت أصلًا،
سكبت ماء الشّاي السّاخن عليهنّ وتسبّبت بحروق.”
“هاه.”
لم أستطع تصديق كلامها بسهولة.
إيلوديا لم تعد تلك البطلة الطّيّبة المتأزّمة.
طيبتها لم تكن سوى نفاقٍ ملتوي بإحكام.
لكن حتّى لو كان نفاقًا،
وحتّى لو لم يكن سوى تظاهرٍ بالطّيبة،
ألم تكن تحافظ على مظهر إيلوديا الطّيّبة؟
أن تسكب الماء السّاخن على الخادمات؟
“ليس كثير من الخادمات يمتلكن جرأة لونا على المواجهة،
مهما صاحت إيلوديا.”
ألقت رئيسة الخدم نظرةً خاطفة على لونا الّتي كانت تقف خلفي،
فرفعت لونا ذقنها،
وأظهرت تعبيرًا متباهيًا.
همم.
لا يبدو مدحًا مهما نظرتُ إليه.
لكن إن كانت هي سعيدة،
فلا بأس؟
“وماذا قال إِردان؟”
إِردان هو من أمر بحبس إيلوديا،
فلا بدّ أنّها نقلت إليه الأمر قبل أن تأتي إليّ.
وبما أنّه لم يعطِ جوابًا واضحًا،
جاءت إليّ.
وكأنّ توقّعي كان صحيحًا،
إذ تغيّر وجه رئيسة الخدم إلى وجه من ابتلع طعامًا فاسدًا.
“قال:
وماذا أفعل أنا؟”
“…….”
“وقال أيضًا:
أليس كافيًا أن تُجاملها قليلًا؟”
“…….”
“قلتُ له إنّ ما تريده هو الخروج،
وأنّ مجاملتها لن تحلّ الأمر،
فقال إن لا أُلقي عجزِي عليه.”
“……ثمّ قال إن استمرّت بإحداث الضّجيج،
فلنأتِ بها إليك، أليس كذلك؟”
“نعم.”
وضعتُ يدي على جبيني،
وقد امتلأ صوتها بالظّلم.
كان عجز إِردان يتجدّد في كلّ مرّة.
“سأقابلها أوّلًا.
لكن لا تتوقّعي كثيرًا،
فليس هناك ضمان أن تهدأ لمجرّد ذهابي.”
“……آسفة.”
لم أستطع تجاهل معاناة الخادمات البريئات.
سأكسر شوكتها تمامًا،
أو أهدّدها،
أيّ شيءٍ يمنعها من التّمادي.
“سيدتي، ليريبيل.”
كان ذلك حين هممتُ بالنّهوض.
اقتربت لونا منّي بابتسامةٍ عريضة.
“هل من الضّروري أن تتعب سيّدتي نفسها وتذهب لمقابلتها؟”
“هم؟”
نظرت إليّ لونا بعينين متلألئتين.
كان بريقهما ساطعًا لدرجة أنّني خُيّل إليّ
أنّ ضوءًا يتفجّر خلف ظهرها.
—
كانت إيلوديا تجوب الغرفة بقلق.
‘يجب أن أخرج من هنا أوّلًا.
بأقصى سرعة.’
لو كانت إيلوديا حاملًا فعلًا،
لركّزت بهدوء على حمل الطّفل الّذي سيضمن مستقبلها،
واعتنت به دون إثارة مشاكل.
لكن لم يكن في بطنها طفل.
كانت تحتاج إلى طفلٍ الآن،
ولا يمكنها إنجابه وحدها.
لم يكن أمامها خيار.
الخروج،
ثمّ الحمل،
كان الأولويّة القصوى.
‘لا يهمّ إن لم يكن طفل إِردان.
المهمّ أن أحمل.’
لو كان بين من يدخلون هذه الغرفة رجل،
لتمكّنت من إيجاد طريقةٍ ما لتحمل منذ زمن.
لكن من يعبر هذا الباب لم يكن سوى نساء.
حتّى الطّبيب الّذي يأتي للتأكّد من حملها.
“لا خيار.
لا خيار آخر.”
تمتمت إيلوديا،
وهي تستعيد ما فعلته من إيذاءٍ للخادمات كي تخرج.
“هنّ من بدأن بإهانتي ووصفِي بابنة الحرام، أليس كذلك؟
أنا سيّدة بيت الدّوق.
أنا لم أخطئ.
الخطأ خطؤهنّ، ولهذا حدث ما حدث.”
أخذت إيلوديا تذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا،
وهي تهمهم بلا توقّف.
“……!”
توقّفت فجأة عند سماع صوت المفتاح وهو يدور.
استدارت نحو الباب،
وقد امتلأت عيناها بالتّرقّب.
“…….”
لكن حين فُتح الباب،
ودخلت خادمة تدفع عربة طعام،
ابتلّت عينا إيلوديا الزّرقاوان بخيبة الأمل.
ما كانت تنتظره هو زيارة إِردان.
لو جاء،
لما احتاجت إلى الخروج والبحث عن رجل،
بل كانت ستجرّه إلى السّرير وتحمل منه.
وحتّى لو لم يحدث ذلك،
كانت ستتوسّل إليه بهدوء أن يطلق سراحها،
متذرّعةً باستقرار الطّفل.
‘كم يجب أن أُعذّب الخادمات
حتّى تأتي لمقابلتي……’
عضّت إيلوديا شفتها السّفلى بقوّة.
هل لم يصل خبر شغبها إلى أذنَي إِردان بعد؟
لو وصله،
لجاء ليهدّئها على الأقلّ من أجل استقرار الطّفل.
من أعماق قلبها،
بدأت مشاعر سلبيّة تزحف ببطء.
وفي الوقت نفسه،
تسرّبت القسوة إلى ملامحها الّتي كانت تبدو بريئة،
وتحوّل بريق عينيها إلى حدّةٍ قاتمة.
التعليقات لهذا الفصل " 163"