“حين جئتُ لأخذِ قلبِ التّنّين شعرتُ بشيءٍ ما، لكن يبدو أنّ هَذا القصر ما تزالُ عالقةً فيه هالةُ التّنّين بقوّة.”
“هالةُ التّنّين؟”
“نعم. خطرَ لي أنّ في هَذا القصر شيئًا له علاقةٌ بالتّنّين، لذلك أردتُ أن أبحثَ قليلًا.”
بعدَ سماعي لشرحِ لويس الإضافي، بدا لي طلبُه بالبقاءِ هنا مفهومًا إلى حدٍّ ما.
“سأرشدكُم إلى غرفةٍ للإقامة.”
كنتُ قد تردّدتُ لأنّه ليس بيتي، لكن حين فكّرتُ بالأمر، لم يكن لديّ سببٌ حقيقيّ للتردّد.
سيفهم إردان.
بل يجبُ أن يفهم.
“لا. لا بأس.”
هزَّ لويس رأسَه.
“قلتُ إنّي سأبقى، لكنّي سأتنقّل بالسّحر ذهابًا وإيابًا، فلا حاجةَ لغرفة.”
همم.
إذًا لم يكن مضطرًّا لإخباري أصلًا.
فحتى لو ظهرَ فجأةً في غرفتي، فلن يلاحظَ أحدٌ شيئًا إن جاءَ وذهبَ على هذا النحو.
“لأنّه بيتُكِ، رأيتُ أنّه من الأفضل أن أستأذن.”
تمتمَ لويس وهو يُديرُ عينيه، كمن يتظاهرُ بالانشغال.
‘آه، في العادة كان سيدخلُ ويخرجُ دونَ إذن، لكن طلبَ الإذن الآن جعله يشعرُ بالحرج.’
بالنظرِ إلى تصرّفاته السابقة، بدا استنتاجي هو الأكثرُ منطقًا.
كان لويس يحملُ هيئةَ المتعالي على الناس، غير أنّ غرورَه يختلفُ عن غرورِ إردان.
فغرورُ لويس لم يكن نابعًا من اعتقادِه أنّه كائنٌ خاصّ يحتقرُ الآخرين، بل من لامبالاةٍ شاملةٍ تجاه الجميع.
ذلك التصرّفُ الذي يقولُ وكأنّه: ‘لأنّكِ أنتِ، سأفعلُ هذا القدر.’
لم يكن يزعجني.
ربّما لأنّي تلقيتُ منه مساعداتٍ كثيرة، أو لأنّ ذلك التعالي بدا طبيعيًّا، وكأنّه أمرٌ يُؤخذُ كما هو.
“ليس بيتي، لكن زيارةَ السيّد لويس مرحّبٌ بها في أيّ وقت.”
وعلى إثرِ موافقتي، أومأ لويس برأسه وقد بدا عليه شيءٌ من الزهو، كأنّه لم يكن متحرّجًا قبلَ لحظات.
“كنتُ واثقًا أنّكِ ستأذنين، لكن بما أنّكِ فعلتِ، فإن احتجتِ إلى مساعدةٍ فاخبريني.”
“هذا شرفٌ لي.”
“همم.”
رفعَ لويس ذقنَه قليلًا وأومأ، وكأنّ الأمرَ بديهيّ.
“ضعي بعضَ الوجباتِ الخفيفة في الغرفة، لأتناولَ منها أثناءَ المرور.”
“نعم. سأحضّرُ أصنافًا متنوّعة.”
“ولا أريدُها يابسة، فبدّليها باستمرار.”
“نعم. أمّا المثلّجات فستذوب، لذا يصعبُ تركُها، أرجو المعذرة.”
“إذًا المشروبات بدلًا منها.”
“حسنًا. تحبّ شايَ الخوخ وعصيرَ البرتقال، أليس كذلك؟
آه، وسأضعُ أيضًا حليبَ الفراولة.”
حين كنتُ أرافقُ كاسروشيان خِلال إقامته في القصرِ الإمبراطوري، صادفتُ لويس مرّاتٍ عديدة.
لم تكن لقاءاتٍ خاصّة، بل كنتُ أقفُ على الهامش أثناءَ لقاءاتِ كاسروشيان ولويس.
وبفضلِ ذلك، كنتُ أعلمُ أنّ لويس يُحبّ الوجباتِ الخفيفة كثيرًا، وأعرفُ ذوقَه جيّدًا.
لويس هو سيّدُ برجِ السّحر.
ومن البديهيّ أن يكونَ التقرّبُ منه نافعًا، فمعرفةُ ذوقِه أمرٌ لا بدّ منه.
للبقاءِ على قيدِ الحياة كشخصيّةٍ ثانويّةٍ لا يُذكرُ اسمُها، لا غنى عن التزلّفِ للأقوياء.
ولكي يكونَ التزلّفُ ناجحًا، فمعرفةُ الميولِ ضرورةٌ حتميّة!
“هممم.”
لويس، الذي كان يطلبُ إعدادَ الوجباتِ بثقة، بدا راضيًا عن إجابتي، فمدَّ يده وربّتَ على رأسي بخفّة.
كانت لمستُه ما تزالُ تشبهُ معاملةَ جروٍ مطيع.
“سأذهب.”
وما إن قالها، حتّى اختفى لويس في لحظةٍ، في غمضةِ عين.
‘حسنًا فعلتُ حين حفظتُ ذوقَه.’
إن كان بإمكاني نيلُ مساعدةِ لويس مقابلَ السماحِ له بالدخولِ إلى بيتٍ ليس بيتي، وتحضيرِ بعضِ الوجبات،
فذلك ربحٌ لا يُفوَّت.
ثقلُ صدري بسببِ مسألةِ التّابعين تلاشى في لحظة.
—
“ليريبيل.”
ما إن غادرَ لويس، حتّى جاءَ من يطلبُ مقابلتي.
“أمم…….”
كان المتردّدُ في الكلام هو إردان.
“ذاك…….”
ظلَّ إردان متردّدًا طويلًا دونَ أن يدخلَ في صلبِ الموضوع، لكنّي لم أكن بحاجةٍ لسماعِ ما سيقوله.
“مهما يكن، فأنا الحاكمُ هنا، أليس من الواجبِ الحفاظُ على المظهر اللائق؟”
قالها أخيرًا بابتسامةٍ متكلّفة.
“أعلمُ أنّكِ جلبتِ المالَ حبًّا بالإقليم، ولأجلِه.
لكن، مع ذلك، أنا الحاكم.
وإن بدا مظهرُ الحاكم رثًّا، فذلك يسيءُ إلى الإقليم أيضًا، أليس كذلك؟”
ما كان إردان يريده هو المال.
‘ليس سهلًا سرقةُ المال، أليس كذلك؟’
أنزلتُ بصري وارتسمتْ على شفتي ابتسامةٌ خفيفة.
كان يحاولُ اختلاسَ المالِ المتكدّسِ في المخازن دونَ أن يطلبَ منّي، لكنّ الفرسانَ والجنودَ الذين ظنّهم في صفّه أحكموا الحراسة.
وحسبَ ما سمعتُ من ثيودور، فإنّه بعد فشلِه المتكرّر، وصلَ به الأمرُ إلى الادّعاءِ:
‘هذا المالُ هو مالُ ليريبيل، لكنّه في الوقتِ ذاتهِ مالي.’
ومع ذلك، لم يتراجعْ ثيودور، وبقي إردان مفلسًا كما هو.
“ليريبيل؟”
لم يجدْ حلًّا آخر، فجاءَ إليّ.
“ألم تنسَ البندَ المذكورَ في العقدِ الذي وقّعناه؟”
رفعتُ بصري ونظرتُ إليه مباشرةً.
الآن فقط لاحظتُ أنّه يرتدي الملابسَ نفسها التي جاءَ بها حين زارَ القصرَ الإمبراطوري للقائي.
لم أره قطّ يرتدي الثوبَ نفسه مرّتين، منذ أيّام عملي خادمةً لدى بريسيلا.
“قلتُ إنّي سأمنحك المالَ المتبقّي بعدَ إدارةِ الإقليم.”
“أعرف. لكن المالَ كثيرٌ هكذا.”
“أخبرتُك منذ البداية أنّه مالٌ مخصّصٌ للإقليم.”
“والحفاظُ على هيبةِ الحاكم هو أيضًا من أجلِ الإقليم.
أنتِ كنتِ نائبةَ الحاكم، وتعرفين ذلك جيّدًا.”
تجمّدَ وجهي دونَ وعي.
“سرقتِ مالَ إقليمي، فأين أنفقتِه؟”
“آه، هل لبستِ هذه الخِرَق عمدًا؟
لتظهري بمظهرِ النزيه؟
يا للمضحك، وأنتِ أكثرُ من يلهثُ خلفَ المال.”
وكيفَ لي أن أعرف؟
أنا التي كنتُ أرتدي تلك الملابسَ البالية وأنا نائبةُ الحاكم.
‘هل نسيَ حتى ما قاله هو بنفسه؟’
أرخيتُ ملامحي وسخرتُ في داخلي.
أنتَ، بمظهرك الأنيق، ماذا قدّمتَ للإقليم؟
هل يكفي التظاهرُ بالهيبةِ ليُدارَ الإقليمُ وحدَه؟
لو تخلّيتَ عن ثوبٍ واحد، كم شخصًا من سكّان الإقليم كان يمكن إطعامه؟
حتى أكثرُ الناسِ انعدامًا للضمير لا يطمعُ علنًا في الأموالِ المخصّصة لإعمارِ إقليمِه.
لكن يبدو أنّ الضمير لم يكن موجودًا لدى إردان أصلًا.
“ولو قلتَ ذلك.”
نهضتُ من مكاني، وأخذتُ بعضَ الأوراق من فوقِ المكتب، وقدّمتُها له.
“مديرو الإقليم الذين عيّنتَهم أنتَ رفعوا تقاريرَ تفصيليّة عن أوجهِ الصرف، وقد أُقِرّت بالفعل.”
نظرَ إردان إلى الأوراق بوجهٍ متجهّم.
ومن ثباتِ عينيه، بدا أنّه لا ينوي قراءتَها أصلًا.
“وبحسبِ تقريرِ الميزانيّة، فالمتبقّي لا يتجاوزُ بضعَ قطعٍ ذهبيّة.”
“……ماذا؟”
عقدَ حاجبيه وبدأ يقلبُ الأوراق أخيرًا.
“هل تآمرتِ معهم كي لا تعطيني المال؟
كيف لا يتبقّى من كلِّ هذا سوى بضعِ قطع؟!”
يبدو أنّه صُدم بشدّةٍ من فكرةِ عدمِ حصولِه على المال، فنسيَ التمثيل وصرخ.
‘نعم. توقّعُك صحيح.’
لم يكن ممكنًا ضخُّ المالِ دفعةً واحدة.
فذلك قد يدمّرُ الاقتصادَ أكثر.
كان لا بدّ من إطفاءِ الحريقِ العاجل، ثم الاستثمارِ على المدى الطويل، مع الاحتفاظِ بالأموالِ للتدخّلِ عندَ الطوارئ.
لكن لو شرحتُ ذلك، لظلَّ يطالبُ بالمال، لذلك زوّرتُ التقارير مدّعيةً أنّ المالَ صُرِف كلُّه.
“أليس هؤلاء المدراء من تعيينِك أنت، لا من تعييني؟”
ارتجفَ إردان قليلًا.
“ثم إنّ التقرير رُفع في اليومِ التالي لوصولي مباشرةً.
ألا ترى أنّ المدةَ أقصرُ من أن أستميلَهم؟”
“…….”
“هم إداريّون أكفّاء، وقد أعجبتني حُسنُ بصيرتِك في اختيارِهم، لكن ردّةَ فعلك غيرُ متوقّعة.”
لم يشأ رفضَ الإطراءِ، فتنفّسَ بضيقٍ ووضعَ الأوراق على الطاولة دونَ تعليق.
تظاهرَ بمراجعتها، لكنّه لم يجدْ أثرًا للتزوير.
وذلك أمرٌ لا يحدثُ إلّا مع إردان.
فأيُّ شخصٍ لديه أدنى خبرةٍ في إدارةِ الإقليم كان سيلاحظُ الثغرة فورًا.
“لهذا السبب، يصعبُ تخصيصُ مالٍ لك.
لكن…….”
نظرَ إليّ إردان بامتعاض، وقد تشدّدتْ ملامحُه.
‘ربّما تكونُ هذه فرصة.’
ارتسمتْ ابتسامةٌ عميقة على شفتي.
فكرةُ تقديمِ المالِ لإردان قد تفتحُ لي بابًا لإخضاعِ التّابعين.
التعليقات لهذا الفصل " 162"