“أفهمُ ذلك.
فسمعتي السيّئة ذائعةٌ أصلًا.”
أنزلت ناديا عينيها، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ باهتة.
“لكن أليس من الممكن، إن عشتَ التجربة بنفسك، أن تكتشف أنّني مختلفةٌ عمّا تُشيعه الشائعات؟
أليس كذلك؟”
لا أظنّ ذلك.
بل أشعر أنّني إن أخطأتُ خطوةً واحدة، فسأُداسُ بحذاءٍ على رأسي كما حدث مع إيلوديا.
كنتُ أتصبّب عرقًا بوجهٍ حائر، حينها—
“واهاهاهاها—!”
انفتح الباب فجأةً بلا إنذار، وتردّد صوتُ ضحكٍ مألوف.
التفتُّ، فكان كاسروسيان، كما توقّعت.
‘تِيسكان؟’
وخلف كاسروسيان المبتسم، وقف تِيسكان، وبدا واضحًا لأيّ ناظرٍ أنّه جُرّ إلى هنا جَرًّا.
“أتشرف بالمثول بين يدي شمس الإمبراطوريّة، جلالة الإمبراطور.”
تجعدت ملامح ناديا البيضاء الأنيقة قليلًا من اقتحام كاسروسيان الوقح، ثمّ ما لبثت أن اختفت.
نهضت على الفور، وقدّمت له تحيّةً رشيقة.
‘الحمد لله.
ظننتها ستصفعه على خدّه حالًا.’
“أوه، يا آنسة.
سمعتُ أنّ آنستي جاءت لزيارة الكونتيسة ليريبيل، فقلتُ في نفسي: لمَ لا أجيء لألقاكِ؟”
“أتقصدني؟”
عقدت ناديا حاجبيها بدهشةٍ صادقة.
وبالنظر إلى ردّ فعلها، بدا أنّه لا توجد أيّ صلةٍ سابقة بينها وبين كاسروسيان.
ابتسم كاسروسيان ابتسامةً عريضة، ثمّ تنحّى خطوةً إلى الجانب.
حينها ظهر تِيسكان بالكامل، ورأسه مطأطأ بوجهٍ يُعلن نفوره دون مواربة.
“أليس بين الدوق والآنسة سوءُ تفاهمٍ قديم؟
ظننتُ أنّ حادثة الأمس قد تكون فرصةً لتصفية ذلك الخلاف.”
“آه……”
تلألأت عينا ناديا فور رؤيتها لتِيسكان.
“كنتُ أتحدّث مع الدوق تِيسكان على انفراد، وإذا بآنسة ناديا تزور القصر في هذا التوقيت.
أليست مصادفةً موفّقة؟
واهاهاهاها!”
في تلك اللحظة، أدركتُ أنّ كاسروسيان تعمّد إحضاره إلى هنا.
‘لكن لماذا؟’
ألا يعلم كاسروسيان أنّ تِيسكان يكره ناديا كراهيةً شديدة؟
“أشكركم على هذا اللطف.”
ومع شكر ناديا، أومأ كاسروسيان برأسه بخفّة، ثمّ أشار إليّ بعينيه.
“دعِي الدوق والآنسة يتحدّثان بصراحة.
أعيرينا غرفة الاستقبال قليلًا، يا كونتيسة ليريبيل.”
لا بدّ أنّ هناك سببًا جعله يُحضر تِيسكان.
إذًا، من الصواب أن أُخلي المكان.
“نعم، كما تأمرون.”
“إذًا سننصرف نحن.
أتمنّى لكما وقتًا طيّبًا.”
ما إن نهضتُ واقتربتُ من كاسروسيان، حتّى لفّ ذراعه حول كتفي بخفّة، وسحبني إلى الخارج.
بدت شفتا تِيسكان وكأنّهما تتحرّكان ليقولا شيئًا، لكنّ كاسروسيان أغلق باب غرفة الاستقبال بقوّةٍ وحزم.
“ما رأيكِ بنزهة؟”
سأل كاسروسيان وهو يبتسم بخفّة، كأنّه أنجز أمرًا كبيرًا بنجاح.
“لماذا أحضرتَ الدوق تِيسكان؟”
سألتُه وأنا أُمسك بيده الممدودة.
“خشيتُ أن تُضايقكِ آنسة ناديا.”
“ماذا؟”
لمحتُ من بعيد إحدى وصيفات قصر الإمبراطورة الأرملة تقترب.
عندها، قادني كاسروسيان إلى زاويةٍ جانبيّة وهو يجيبني.
بدا أنّه لا يريد لأحدٍ أن يرانا ونحن نتشابك الأيدي.
“لا أعلم لِمَ تهتمّ آنسة ناديا بكِ، ولا سبب إظهارها كلّ ذلك الودّ……”
ثمّ عاد صوتُ خطواتٍ يقترب، فغيّر كاسروسيان اتجاهه مرّةً أخرى.
كان بإمكانه ببساطةٍ أن يُفلت يدي، ومع ذلك ظلّ يغيّر مساره ليتفادى الحاشية دون أن يترك يدي.
“هي شخصٌ لا ينبغي التورّط معه.”
“ولهذا ألقيتَ بها على عاتق الدوق تِيسكان؟”
“نعم.
ظننتُ أنّ آنسة ناديا، بما أنّها معجبةٌ به، ستترككِ وتمسك به فورًا.
وقد فعلت فعلًا.”
ابتسم كاسروسيان ابتسامةَ من يرضى عن خطّته.
توقّفتُ عن المشي.
‘لكن تِيسكان يكرهها بشدّة……’
تخيّلتُ مدى الإحراج الذي سيتعرّض له بسببي، فشعرتُ بالذنب.
وكأنّه أدرك ما أفكّر فيه، أضاف كاسروسيان سريعًا:
“شرحتُ له كلّ شيء، وطلبتُ مساعدته.
لم آتِ به قسرًا ولا هدّدته.
جاء بإرادته.”
مع ذلك، كان تردّده واضحًا جدًّا.
نظرتُ إليه بعينٍ شاكّة، فارتبك كاسروسيان وأدار وجهه.
“قال إنّه يفضّل أن يواجهها بنفسه بدل أن يتأذّى شخصٌ آخر من أفعالها.
حقًّا، قال ذلك.”
“……”
“طبعًا، هو لا يحبّ التعامل معها……”
“……”
“لكنّه قالها فعلًا……”
انخفضت كتفا كاسروسيان، واستُنزفت القوّة من يده التي كانت تُمسك بيدي.
“سأذهب وأبقى معه.”
تمتم بصوتٍ خافت.
“لو لم يكن راغبًا، لكان رفض، أليس كذلك؟
حتّى لو كان الاقتراح من جلالتكم.”
“نعم، لكان فعل.
تِيسكان عنيدٌ بطبعه، ولا يقبل الإكراه.”
هذا صحيح.
حين استحضرتُ كلّ ما أعرفه عنه، بدت كلمات كاسروسيان مقنعة.
“إذًا لا بأس.”
رفع كاسروسيان عينيه نحوي من تحت رموشه، وقد بدت عليه الدهشة.
“سأشكره لاحقًا.”
“مم.”
“وأشكرك أنت أيضًا، جلالة الإمبراطور، لاهتمامك.”
ابتسمتُ بخجل، وأمسكتُ يده مرّةً أخرى.
“لقد كنتُ في موقفٍ محرجٍ فعلًا.”
فانقلبت ملامحه القاتمة إلى إشراقةٍ فوريّة.
‘……إنّه لطيفٌ حقًّا.’
كان يبتسم بسطوعٍ حتّى خُيّل إليّ أنّ خلفه تأثيرَ زهورٍ كما في القصص المصوّرة.
—
“لم أتوقّع أن يأتي الدوق بنفسه للقائي.”
قالت ناديا بنبرةٍ ناعمة، فرفع تِيسكان رأسه قليلًا من ميله.
غير أنّ نظره لم يستقرّ عليها.
“هل طرأ تغييرٌ في مشاعركم بعد حادثة الأمس، كما قال جلالته؟”
“مستحيل.”
رغم وضوح نفوره منها، لم ينهض ليغادر، فارتسمت على شفتي ناديا ابتسامةٌ غامضة، لا تُدرى أهي سخرية أم مرارة.
“يبدو أنّ كونتيسة ليريبيل تعني لك الكثير.”
“……”
لم ينظر إليها حتّى ذُكر اسم ليريبيل، عندها فقط رمقها بنظرةٍ مشوبةٍ بالاشمئزاز والحذر.
“رغم احتقارك لي، خرجتَ عن طريقك من أجلها.”
“كُفّي عن هذه الافتراضات.”
قاطعها تِيسكان بصوتٍ بارد، كأنّه يدحض هراءً.
“لا تنظر إليّ هكذا.”
ابتسمت ناديا وهي تُضيّق عينيها قليلًا.
“كم مرّ من الزمن منذ ذلك الحين؟
لم أعد تلك الفتاة الطائشة.”
كاد تِيسكان يطلق ضحكةً ساخرة دون قصد.
فما ارتكبته ناديا لم يكن أفعال فتاةٍ ساذجةٍ جاهلة.
“لم أعد فتاةً عمياء بالحبّ، ولا مراهقةً طائشة تسعى لانتزاعه بأيّ ثمن.”
أمالت ناديا رأسها بخفّة.
كأنّها تتوب عن ماضيها.
“لقد تجاوزتُ منتصف العشرينات.
عمرٌ قد أكون فيه أمًّا لعدّة أطفال دون غرابة.”
“ما الذي تريدين قوله؟”
“أقصد أنّني، حتّى لو كان الكونتيسة ليريبيل على علاقةٍ بك، لا أنوي إيذاءها.”
شبكت ناديا يديها فوق ساقيها.
“أنا فقط… أعجبتُ بها.”
لم ترفع عينيها لملاقاة نظره، لكنّ بريقًا حادًّا لمع فيهما.
إلّا أنّ انحناء رأسها حال دون أن يراه تِيسكان.
“إن كانت قد راقت لكِ، فاحذري تصرّفاتكِ، فقد تشعر بعدم الارتياح.”
قالها تِيسكان محذّرًا، إذ لم يصدّق كلمةً ممّا قيل.
“مع هذا القدر من اهتمامك بالكونتيسة، يبدو أنّ علاقتك بها ليست مجرّد تمثيل لإغاظة إيلوديا والماركيز فيدليو، أليس كذلك؟”
منذ انكشاف خبر علاقة تِيسكان وليريبيل، اعتبرها الناس مجرّد تمثيل.
قلّةٌ فقط، من الحالمات بالروايات الرومانسيّة وبعض غيرهم، صدّقوا أنّها علاقةٌ حقيقيّة.
فارتباط الزوجين السابقين بأزواج بعضهما يُرى غالبًا كنوعٍ من الانتقام لا أكثر.
“وهل يجب أن أشرح هذا لكِ؟”
لكنّ ردّة فعل تِيسكان الآن أكّدت أنّ الأمر أعمق من ذلك.
فهو رجلٌ لا يسمح أبدًا بأن تُلطّخ سمعته أو سمعة دوقيّته بفضائح.
أفكان ليخوض علاقةً لمجرّد الانتقام؟
“لا.”
ابتسمت ناديا بعد أن رتّبت أفكارها.
“لا حاجة لمزيدٍ من الحديث.”
كان في ابتسامتها نذيرُ شؤم، فنهض تِيسكان عابسًا.
“حتّى لو كنتَ تحبّ الكونتيسة ليريبيل بصدق، فسأكون أوّل من يبارك لكما.
أعني ذلك.”
توقّف تِيسكان لحظةً عند الباب، وقد وصلته كلماتها من الخلف.
التعليقات لهذا الفصل " 150"