“حقًّا، لا أستطيع أن أفهم ما الّذي تريده السيّدة على وجه الدقّة.”
تنفّست ليريبيل زفرةً خافتة وهي تنظر إلى إيلوديا.
“قلتُ لكِ سابقًا، في الإمبراطوريّة عُرفُ الاحتفاظ بعشيقة، لذلك لا يمكن اعتبار تصرّفاتكِ مشكلةً من حيث العُرف.
مع أنّه يمكن الإشارة إلى خللٍ أخلاقيّ، بالطبع.”
شدّت إيلوديا شفتيها بإصرار، وتجنّبت نظرات ليريبيل.
فكلّما تبادلت الكلام مع تلك المرأة، ازداد ما تخسره.
ومع ذلك، لم تغادر المكان، لأنّها خشيت أن تُوسَم حقًّا بالشرّ، وأن ينهال الناس عليها ذمًّا.
“صحيح.
أنتِ لستِ مُذنبة، وأنا قد طلّقتُ إردان، ولذلك لم يعد لديّ سببٌ ولا صلاحيّة لانتقاد تصرّفاتكِ.”
“…….”
“لكن ما المشكلة إذًا؟
لماذا تواصلين الجدال حول أمرٍ مضى؟”
تابعت ليريبيل كلامها وهي تمرّر يدَها في شعرها.
“أنا انفصلتُ عن زوجي، وأنتِ الآن زوجةُ طليقي، أليس كذلك؟
اعترفي بخيانتكِ وعِيشِي بنباهة في المجتمع الراقي.
خالطي أصدقاءَ يملكون مستوىً أخلاقيًّا شبيهًا بكِ.
فالعشيقات الوقحات لسن قلّة.”
عشيقةٌ وقِحة.
تشوّه وجهُ إيلوديا عند سماع الكلمة.
وما زاد غضبها أنّ بعض النبلاء أومأوا برؤوسهم موافقين كلام ليريبيل.
“صحيح.
كم من عشيقةٍ وقحة دمّرت أسرةً وجلست في مقعد الزوجة.”
“وترفع رأسها عاليًا وتتباهى بأنّها استحقّت المكان، وتُجيد التجوال في المجتمع الراقي.”
صحيح أنّهم لا يُعاملون معاملةً لائقة، لكن كلام ليريبيل لم يكن خاطئًا.
“تمامًا.
كان عليها أن تعترف بخطئها وتكتفي بالظهور بوصفها زوجة الماركيز فيديليو، بدل أن تُعاكس الكونتيسة ليريبيل في كلّ مرّة.”
نقر أحد النبلاء لسانه متأفّفًا.
فالعائلات المقرّبة من بيت فيديليو، أو الساعية للتقرّب منه، كانت ستتغاضى عن خيانتها وتُجاملها على أيّ حال.
“…….”
ازداد وجهُ إيلوديا احمرارًا وهي تسمع الهمسات.
وكانت قبضتاها المشدودتان ترتعشان بعنف.
“لماذا لا تفعلين ذلك، وتستمرّين بدلًا من ذلك في سرد الأكاذيب هنا وهناك، متظاهرةً بالظلم، وتلفّقين التهم لي أنا الضحيّة؟
أنا، الضحيّة الحقيقيّة، دفنتُ الأمر في قلبي وعِشتُ بهدوء، فلماذا أنتِ، بصفتكِ الجانية، تُصرّين على هذا؟”
مسحت ليريبيل جبينها بطرف إصبعها، وكأنّها مُرهقة، ثمّ تابعت.
“هل تريدين، وأنتِ مَن جعلتِني تعيسة، أن تنتزعي حتّى موقعي كضحيّة؟
بل أنا مَن يجب أن يسأل.
لماذا تفعلين بي هذا إلى هذا الحدّ؟”
“لأنّي أنا الضحيّة!”
في تلك اللحظة بالذات.
انفجرت إيلوديا بالصراخ بعد أن ظلت صامتةً طويلًا، غير راغبة في محادثة ليريبيل.
“أنا الضحيّة، وأنتِ من أصبحتِ ضحيّة بدلًا عنّي!
أنا مَن تعرّضتُ للتشويه، وأنا مَن تضرّرت ظلمًا!
لماذا أُدان أنا؟
لماذا!”
ارتجفت وجنتا إيلوديا من شدّة الغضب وهي تصرخ.
“إن أردتِ الادّعاء، فأتِي بدليل.
لا تستجدي العطف بالدموع والمشاعر فقط.”
على العكس منها، جاء صوتُ ليريبيل باردًا خاليًا من الانفعال.
“دليل؟”
لمعت عينا إيلوديا الزرقاوان بوميضٍ غريب.
“انظري إلى الوضع الآن.
انظري إلى النتيجة!
أنتِ تتقدّمين، وأنا دُمّر كلّ شيء لديّ!
هذا ما يحدث لأنّكِ الجانية!”
أنا لم أُخطئ.
كما تعرّضتُ للأذى من بريسيلا، ومن ناديا، بلا سببٍ ولا ذنب، فإنّني أُظلَم مرّةً أُخرى.
كان العالم دائمًا ظالمًا لإيلوديا.
فالنساء أمثال بريسيلا وناديا كنّ يحسدن جمال إيلوديا ويضطهدنها.
‘……!’
عند هذه الفكرة، هدّأت إيلوديا انفعالها، ونظرت إلى ليريبيل بعينين متّسعتين.
لا تقولي إنّ تلك المرأة أيضًا……
“هل كان الأمر مُدبّرًا منذ البداية؟
هل كنتِ تحسدينني؟”
“……ماذا قلتِ؟”
“أردتِ تدميري، لذلك اقتربتِ عمدًا من إردان الّذي يُحبّني، وحرّضتِه ليجذبني؟
أردتِ انتزاعي من منصب الدوقة الكبرى؟”
“ها…….”
“ولم يَكفِكِ ذلك، فتمنّيتِ أن نتشاجر أنا وإردان، وتعمدتِ منحَه إقليم بيترول، وأنتِ تعلمين بوجود جثّة التنّين هناك؟”
“…….”
“وهمستِ بالسوء عنّي لدى صاحبة الجلالة الإمبراطورة الأرملة، وجعلتِها تكرهني، كلّ ذلك عن قصد، لإسقاطي…….”
“…….”
“أسقطتِني، وأخذتِ تيسكان، والمال الّذي كان يجب أن يكون لي، والإقليم كلّه.”
ضمّت إيلوديا كفّيها وغطّت فمها.
“كيف يمكنكِ أن تكوني قاسيةً إلى هذا الحدّ؟”
ارتعشت عيناها الزرقاوان برعبٍ واضح.
“هل كنتُ أحسدكِ إلى هذا الحدّ؟
هل غرتِ لأنّي، وأنا مجرّد عاميّة، جلستُ في منصب الدوقة الكبرى؟
هل لهذا فعلتِ كلّ هذا؟”
كانت إيلوديا تؤمن حقًّا بأنّ أوهامها، وقياساتها الفاسدة، هي الحقيقة بعينها.
“لا أعلم ما الّذي أسأتُ به إليكِ…….”
تدفّقت دموعُ إيلوديا بغزارة، ثمّ جثت على ركبتيها أمام ليريبيل.
“لذلك أرجوكِ، توقّفي الآن.
إنّه مؤلمٌ وقاسٍ جدًّا.
أرجوكِ…….”
وبدأت تتوسّل بحرقة.
“…….”
ألقت ليريبيل نظرةً سريعة على إيلوديا، ثمّ مسحت المكان بعينيها.
نبلاء يتهامسون خلف مراوحهم وأيديهم، وفي عيونهم فضولٌ وشكّ، وتعاطفٌ مع إيلوديا.
كلام إيلوديا لم يكن يستحقّ الرّد أصلًا.
فلو وُجد قدرٌ يسير من التفكير، لما خفي مدى سخافته.
لكن البشر عاطفيّون أكثر ممّا يُظَنّ.
إيلوديا المسكينة.
الغيرة والحسد من ليريبيل، الّتي صعدت من نبيلةٍ وضيعة الشأن إلى ثريّةٍ نافذة.
وقصّة أكثر إثارةً من شائعة خيانة إيلوديا المستهلَكة.
لم يكن أحدٌ بحاجة إلى الحقيقة.
ولو انتشرت أفعال ليريبيل قبل الاستحواذ، فقد تكتسب كلمات إيلوديا مصداقيّةً عبثيّة.
‘وما يثير الغضب حقًّا أنّ هذا ليس تمثيلًا.’
نظرت ليريبيل ببرودٍ إلى إيلوديا الّتي كانت تبكي متوسّلةً عند قدميها.
لم تكن تحاول النجاة بتغطية الحقيقة بفضيحةٍ أكثر إثارة.
بل كانت تؤمن بأنّ أوهامها حقيقة، وبأنّها الضحيّة البائسة.
ظننتُ أنّها ستعجز عن الردّ وتهرب فورًا، فما هذا الجنون؟
‘ماذا أفعل.’
كان من الأفضل لو استمرّت إيلوديا بالكذب كما فعلت سابقًا.
فذلك يمكن تفنيده بسهولة.
لكن إن وُصف كلامها الآن بالهذيان.
فستُضاعف تمثيل دور الضحيّة.
والجدال المنطقي لن يُجدي مع امرأة تؤمن بأكاذيبها إيمانًا مطلقًا.
والشجار معها لن يؤدّي إلّا إلى انتشار كلامها أكثر.
‘إذًا لا خيار.’
أبعدت ليريبيل نظرها عنها، وحدّقت في أحد أطراف القاعة.
“……!”
ارتبكت امرأةٌ في منتصف العمر حين التقت عيناها بعيني ليريبيل.
ثمّ، بعد تردّدٍ قصير، وخزت خاصرة الرجل الواقف بجانبها.
‘لا بدّ من دفن هذا الهراء بقضيّةٍ أكبر.’
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتي ليريبيل.
كنتُ قد أعددتُ الأمر احتياطًا، ولم أكن أنوي الذهاب إلى هذا الحدّ.
“كُفّي عن إحراج الكونتيسة بكلامٍ لا معنى له، إيلوديا.”
استدارت إيلوديا، الّتي كانت تتوسّل باكيةً أمام ليريبيل، نحو الصوت الغريب.
وما إن رأت صاحبه، حتّى اتّسعت عيناها المبلّلتان بالدموع.
‘أبي؟’
الشخص الّذي تقدّم بتردّد كان.
الكونت فيرناندِي، والد إيلوديا.
‘لماذا……؟’
كانت إيلوديا تعرف جيّدًا مدى نبذ المجتمع لابنة غير شرعيّة.
لذلك، رغم غضبها من الاحتقار الّذي تتعرّض له بوصفها عاميّة، لم تُفصح يومًا عن نسبها.
ومع ذلك، يتظاهر والدها بمعرفتها هنا؟
“قد لا أفهم سبب شعوركِ بالظلم، لكنّ ذلك لا علاقة له بالكونتيسة.
توقّفي عند هذا الحدّ.”
تابع الكونت فيرناندِي كلامه.
شحُب وجهُ إيلوديا تمامًا.
حتّى لو لم يستطع الكونت فيرناندِي الاعتراف بها علنًا.
ألم يكن عليه، على الأقلّ، ألّا يوبّخها في هذا الموقف؟
أنا ابنتُه.
‘لا تقولي إنّ تلك المرأة أخذت حتّى أبي منّي……!’
تيسكان، وإردان، وصاحبة الجلالة الإمبراطورة الأرملة، ولم يَكفِ ذلك.
هل ستسلبني أبي أيضًا؟
التعليقات لهذا الفصل " 147"